إدريس الخوري.. القصة القصيرة في حداد

القصة القصيرة في حداد، فقد رحل با إدريس الرجل المبدع مخلفا وراءه “الأيام والليالي” و”حزن في الرأس والقلب” والكثير من الإبداعات القصصية والمقالات الصحفية، كان الرجل من طينة الكبار، هؤلاء الذين يرحلون في صمت تاركين تاريخهم يتحدث.
محزن هذا الرحيل، لم يصدقه البعض، رغم أن الرجل نعى نفسه بنفسه، ذات ليلة من ليالي سنة 2014، وهو يشعر باغتراب نفسي وحرقة على ما آلت إليه أوضاع الأدباء والمثقفين في بلدنا الحبيب، حيث مهنة الكاتب في حد ذاتها تبدو شيئا عجيبا للناس، لا يفهمون ما معنى ان تكون كاتبا مهنته الكلمات! مغرب لا يقرأ ولا يهتم بالوضع الإعتباري للمثقف، فلاعجب أن تكون هذه نظرة الناس! لكنك كنت حزينا أكثر من بني جلدتك المثقفين، ومشمئزا من هذه الغيرة والحسد المتفشيين في الوسط الذي يسمى “ثقافي “..
إدريس الخوري أو “با إدريس” كما يسميه المقربون، كان رجلا محبا للحياة، لا يتعب من مجالسته للأصدقاء والفنانين والمثقفين لذا ظن البعض، للوهلة الأولى، أن الخبر مجرد إشاعة، فالرجل رغم تجاوزه سن 82 كان خير جليس، واستطاع التجذر في جسد القصة القصيرة، تعبد في محرابها ناسكا، رافضا كتابة الرواية التي اعتبرها موضة العصر، وفضل البقاء في ميدان القصة القصيرة مخلصا لها، حيث ازدانت معه بكل تمغريبت ممكنة.. مع با إدريس رأينا الحياة اليومية للمغرب البسيط في قصصه القصيرة ..شخوص تطل علينا بين السطور فنراها حية تمشي أمامنا، نتابعها وهي تتنقل من مكان إلى آخر ساردة لنا قصة عشق مغربي للأماكن والطقوس والأشخاص…يمسك بالتفاصيل يضعها أمامنا …فنرى ذواتنا فيها ويكبر فينا العشق والحنين للأماكن الأولى ولمغربيتنا …نتذكر ايام الحافلة و السوق والشغب، وخديجة البيضاوية، يقبض على تفاصيل المكان دون تسميته محترما حدس القارئ، وفاتحا الباب لإمكانية تأويله.
حتى وهو يرحل اختارت الأقدار أن يكون الرحيل في 14 فبراير عيد العشاق، لقد رحل في عيد الحب نكاية في كل المثقفين الوهميين، وفي كل من كان يبعده عن منصات التتويج، نكاية في من حاول تصنيفه على الهامش بينما كان سيد المكان تفوح كل تفاصيل المغرب من قصصه الجميلة المعبرة.
وضعت جسدك المتعب الآن يا با إدريس في “مدينة التراب” لكن روحك ستبقى بيننا تلقي “ظلال” الإبداع على “البدايات” الأجمل….لأنك لم تأتي ذات صرخة من سنة 1939 إلى عالمنا الا لكي تغرس حضورك البهي فينا، فازدانت بك صحافتنا من ايام جريدة المحرر، و كنت متألقا في جريدة الاتحاد الاشتراكي والصحيفة … كتبت هنا وهناك بحثا عن لقمة خبزك، فنحن نعرف أن الإبداع لا يغتني منه إلا هؤلاء الاكاديميون الذين يوزعون صكوك الغفران، عفوا الجوائز، لكنهم لم يفكروا يوما في منحك واحدة! ربما لأنك لست تشبههم أو ربما، كما قلت بنفسك، في “مدينة التراب” بكل السخرية التي عهدناها فيك، لم يجدوا في نصوصك ما يساعدهم على تطبيق مناهجهم الغريبة، لم يستطيعوا تقطيع نصوصك حسب منهجية رولان بارث وغيره من نقاد الغرب، انسللت منهم ومن كل شيء جاهز، تركتهم مع نظرياتهم الجاهزة وانطلقت تجوب شوارع البيضاء والرباط والأحياء الشعبية فاستعصيت على كل تصنيف، واستمررت في عشقك… لم تنس شغبك وجنونك القصصي رغم انشغالاتك الصحفية، واصلت الحفر عميقا في جسد القصة القصيرة لأنها وحدها كانت تمنحك القدرة على الإمساك بتفاصيل الواقع اليومي .
لست انت التعيس، كما وصفت نفسك ذات نعي للذات، بل نحن التعساء الذين قدر لنا أن نفجع فيك، انت لم تنتهي، أبدا، لقد تركت اسمك محفورا في خاصرة القصة القصيرة وستكون، دائما، في خيال كل مبدع يحبو آملا المشي على ذلك الطريق الذي قطعته راكضا.
لقد كنت عزاءنا الكبير بعد رحيل زفزاف وشكري، كنا دائما نقول انك هرم أدبي يحق لنا أن نفتخر بك رغم جحود المغرب الرسمي لكن لا عليك فذلك الجحود يكتوي به جميع أخيار الوطن.
وليس صحيحا أنك رقم من أرقام الكتابة، كما قلت في نعيك، بل قل انك الرقم الصعب في محراب القصة القصيرة…لعنة الكتابة تلك قد أضفت لها الشيء الكثير، بل انك حققت الخلود الأدبي الذي استعصى على كثير من أشباه المثقفين .
اذن، فلتنم قرير العين يا با إدريس، فقصصك ستعيش وسيقرأها الجميع يوما ما القراءة التي تليق بها لأنها جائزتك الحقيقية، أن تكون عرابا للقصة القصيرة المغربية، ومنارة يستنير بها كل باحث عن مجد قصصي.

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي