فؤاد عالي الهمة.. حارس التوازن الذي يُعيد للمؤسسات بوصلة المرجعية الملكية

في قلب المنظومة الملكية، يبرز اسم فؤاد عالي الهمة، المستشار الملكي، باعتباره أحد أكثر الشخصيات تأثيرا في المشهد السياسي المغربي المعاصر، ورجل الثقة الذي اختار العمل من خلف الأبواب المغلقة.

الرجل، الذي يشغل موقعا مركزيا ضمن “الدائرة الاستشارية الملكية” يتجاوز دوره الاستشارة ويمتد إلى التأطير، والتوجيه، وضبط الإيقاع المؤسساتي.

يتموقع فؤاد عالي الهمة في تلك المسافة الحرجة بين رئيس الدولة ومكونات السلط التنفيذية والتشريعية، بل وحتى الأمنية، حيث يلعب دور الجسر الدقيق للثقة، يُعيد الأمور إلى نصابها عندما تخرج عن الخط الملكي، سواء عن وعي أو عن تقدير خاطئ.

يعمل الرجل بمنطق “الصرامة الهادئة”، متسلحا بحسٍّ أمني عال وفهم عميق لمعادلات الداخل والخارج.

شخصيته صلبة، عصية على القراءة، لكنها شديدة الحساسية تجاه الانزلاقات، لا تتسامح مع التراخي، ولا تستعجل في الحكم، بل هو رجل المواقف الصعبة، الذي يتدخل عندما يقتضي الأمر التصحيح، والتقويم، وتذكير المؤسسات بأن الملكية في المغرب ليست مجرد رمز، بل مرجعية ناظمة لشؤون الدولة والمجتمع.

فؤاد عالي الهمة لا يجادل من أجل الجدل، ولا يُبدي الرأي إلا حين يلزم. لغته ليست الكلمات فقط، بل الإشارات الدقيقة، التي يلتقطها ويفككها، والتي يرسلها لمن يعنيهم الأمر، يستمع أكثر مما يتكلم، ويتابع أكثر مما يظهر، ويشتغل أكثر مما يُقال عنه.

ما يمنحه هذا الحضور الخاص، ليس فقط قربه التاريخي من الملك محمد السادس، بل قدرته الفائقة على التحمّل، وقراءته الهادئة للتعقيد.

قد لا يظهر في المنصات، لكنه حاضر في كل نقطة ارتكاز. لا يصرّح، لكنه يضبط النبرة. لا يلوّح، لكنه يرسم حدود التدخل. إنه الرجل الذي يُراكم تأثيره بالصمت، ويحمي المسار بظلٍّ كثيف، لا يحتاج للضوء ليُرى.

ليس من السهل مقاربة البعد الشخصي في سيرة شخصية كفؤاد عالي الهمة، لا لأنها تخفي تفاصيلها، بل لأنها تختار عمدا أن تظل خلف الستار. فالهدوء الذي يطبع ملامح الرجل لا يعكس فقط طباعا شخصية، بل هو امتداد لفلسفة في التدبير والتأثير..

دراسته في المدرسة المولوية جعلته ضمن الجيل القريب من الملك محمد السادس، لا كزميل في الفصول الدراسية، بل في النسق الذهني والمرجعي، مما جعل علاقته بالقصر لاحقا ليست علاقة تكليف فحسب، بل ثقة راسخة مبنية على التماهي في الرؤية وفهم الدولة من الداخل.

رغم مساره الوزاري السابق، وتأسيسه لحزب الأصالة والمعاصرة، فإن فؤاد عالي الهمة، حين عاد إلى القصر كمستشار، تخلى طوعا عن الدور الحزبي المباشر، وارتدى عباءة الرجل الرمادي، ذاك الذي لا يُنتخب ولا يُجادل، لكنه يُصغي، يُحلّل، ويهمس متى اقتضت اللحظة المفصلية.

غير أن ما لا يُقال كثيرا، هو البعد الأمني في شخصية عالي الهمة. فالرجل ليس فقط مستشارا سياسيا، بل حلقة وصل وثيقة مع العديد من الأجهزة والمؤسسات، بما راكمه من خبرة، وعلاقات، ونظرة شمولية لطبيعة التهديدات الناعمة والخشنة التي تواجه الدولة.

في لحظات التوتر الإقليمي، كان اسم فؤاد عالي الهمة حاضرا بهدوئه الحاد و كاريزماتيته الصامتة..

في لقاءات مغلقة مع مسؤولين دوليين، أو في بعثات غير معلنة توكل فيها مهمات لطمأنة الحلفاء، أو لقراءة نوايا الخصوم.

في واشنطن وباريس ومدريد، وحتى في الخليج وإفريقيا، يُنظر إليه كمبعوث غير رسمي حين تشتدّ الأزمة أو تحتاج الرباط إلى قناة موثوقة خلف القنوات.

فلا عجب أن يُوصف أحيانا بـ”مدير الأزمات الهادئ”، حيث يتقن هندسة التوازن بين التحرك الداخلي وإدارة الانطباعات الخارجية.

علاقته بالمؤسسات الأمنية ليست تقنية فحسب، بل استراتيجية، تنبع من إيمانه بأن أمن الدولة لا يُختزل في السلاح ولا في الردع، بل في شرعية القرار، وتماسك الجبهة الداخلية، وتقدير لحظة التدخل وحدود الصمت.

ورغم كل ما يُكتب ويُقال، لا يظهر عالي الهمة للرد، فهو من المدرسة التي تؤمن أن “الظهور يُضعف التأثير”، وأن العمل الحقيقي يتم في الظل، حين تكون الرهانات عالية والمعطيات معقدة.

يعرف فؤاد عالي فؤاد عالي الهمة أن منصبه يفرض الكثير من التحفظ، لذلك اختار أن يصنع حضوره بـالغياب المدروس، فهو رجل الظل الذي لا يترك أثرا إلا في المفاصل، ولا يوقّع إلا حين يكون التوقيع ضمانا لاستمرارية الدولة، وثبات توجهها.

حين قرّر فؤاد عالي الهمة خوض غمار العمل الحزبي سنة 2008، لم يكن مجرد رجل دولة يغامر بارتداء عباءة السياسي، بل كان يمارس شكلا آخر من أشكال “الهندسة الديمقراطية”، كما فهمتها الدولة المغربية في سياق التوازنات الداخلية وإعادة ضبط الحقل الحزبي.

تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة لم يكن حدثا سياسيا عاديا، فقد جرى برمجة انطلاقه في لحظة كانت فيها الأحزاب التقليدية تعاني من الترهل، وتآكل الخطاب، وغياب الثقة.
وكان الحزب بمثابة رسالة مزدوجة إلى الداخل الحزبي بضرورة التجديد، وإلى الخارج السياسي بوجود كتلة وسطية قادرة على كسر الاستقطاب الحاد بين الإسلاميين والليبراليين.

بزخم غير مسبوق، نجح الحزب في تجميع نخب جهوية ومحلية، واستقطب برلمانيين وأعيانا، وحقق اختراقا انتخابيا سريعا، جعل منه في فترة وجيزة رقما صعبا في معادلة التوازن السياسي. غير أن ارتباط اسم فؤاد عالي الهمة بالحزب، وهو الرجل القريب من المؤسسة الملكية، فتح أبواب تأويل واسعة، بعضها رآه مشروعا إصلاحيا من داخل النظام، وبعضها اعتبره محاولة للتحكم في الحقل السياسي من الأعلى.

لكن فؤاد عالي الهمة، الذي كان يُدرك بدقة طبيعة السلطة في المغرب، لم يُطِل المقام في واجهة الحزب، بل انسحب طوعا بعد سنوات قليلة، واضعا مسافة واضحة بينه وبين العمل الحزبي المباشر.
انسحابه كان عودة محسوبة إلى مربع الاستشارة الملكية، حيث التأثير لا يحتاج إلى الميكروفون، بل إلى البوصلة.

خروجه من الحزب لم يُضعف الحزب فحسب، بل أظهر أن وجوده فيه كان بمثابة قوة توازن مركزية، وأن الرجل، رغم اشتغاله بهدوء، كان يمنح الحزب “شرعية مشروع” أكثر مما كان يمنحه سلطة انتخابية.

لقد كان في تجربة فؤاد عالي الهمة الحزبية درس للدولة والأحزاب معا.. الدولة بحاجة إلى فاعلين أقوياء من داخل المنظومة الحزبية، لكن الخلط بين الحزبي والمؤسساتي يضعف الطرفين معا. أما الأحزاب، فكان عليها أن تفهم أن قوة الحزب لا تُبنى على الأشخاص وحدهم، بل على الفكرة، والقاعدة، والشرعية الاجتماعية.

في الأخير، لم يكن تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة سوى محطة من محطات رجل يفكر بمنطق الدولة، ويشتغل بمنهج رجل الظل. وعندما انسحب، فعل ذلك ليس لأن اللعبة السياسية ضاقت به، بل لأن موقعه الطبيعي ظل هو الدولة، لا الحزب.

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي