الإعلام بين استنكار التفاهة والاتجار بها..الجلاد والقاضي!؟

في المشهد الإعلامي المغربي اليوم، يبرز تناقض صارخ يكاد يكون عنوانًا رئيسيا لمفارقات لا تنتهي.

فمن جهة، تتبنى بعض المؤسسات خطابا ناقدا للتفاهة، بل وتشن حملات تدعو إلى محاربتها، ومن جهة أخرى، لا تتردد هذه المؤسسات نفسها في تغذيتها والترويج لها، عبر محتوى يفتقر إلى أي عمق أو قيمة حقيقية.

لكن، ولأن في الإعلام لا شيء يحدث صدفة، فإن هذا التناقض ليس مجرد انفلات عفوي أو “خطأ غير مقصود”، بل هو امتداد لرؤية إعلامية محسوبة بدقة..

في الزمن الذي أصبحت فيه المشاهدات معيار النجاح، لم يعد جزء كبير من الإعلام المغربي يسأل: هل هذا المحتوى ذو قيمة؟ بل أصبح السؤال: هل هذا المحتوى يحقق مردودا؟ وهنا، لا تصبح التفاهة مجرد “انزلاق”، بل خيارا واعيا وأداة لضمان”الانتشار السريع” بأقل مجهود ممكن.

إنه منطق براغماتي بحت، وهكذا، لم تعد المعركة حول جودة المحتوى، بل حول كيفية استغلال العاهات الاجتماعية، وتسليط الضوء على التافه والمثير، في الوقت الذي تُقصى فيه الملفات الحقيقية والقضايا العميقة التي تهم المجتمع المغربي.

والنتيجة،إعلام يروج للتفاهة، ثم يعود ليعلن الحرب عليها، وكأنه يريد أن يكون الجلاد والقاضي في الوقت ذاته..

من يتابع بعضا من الإعلام المغربي في السنوات الأخيرة، سيلاحظ أن هناك توجها متزايدا نحو إثارة الجدل العقيم أكثر من تقديم أي محتوى معرفي أو تحليلي جاد.

الأولوية لم تعد لتقديم الرأي، بل لصناعة الإثارة، واقتحام غرف النوم، ونشر غسيلها..

الرأي يتطلب معرفة، وتحليلا ومسؤولية، بينما الجدل لا يحتاج سوى إلى عنوان صادم، أو صورة مستفزة، أو تصريح خارج السياق.

وهكذا، بدل أن يكون الإعلام فضاء لصياغة نقاش عمومي حقيقي حول قضايا المواطن، أصبح سوقا لتبادل الرداءة، وإعادة إنتاج التفاهة، واستثمار في مواضيع سطحية، بينما القضايا الحقيقية، من أزمات الاقتصاد، والبطالة، وتدني مستوى التعليم، وانهيار المنظومة الصحية، والأداء الحكومي تُدفع إلى الهامش.

وإذا كان هذا الواقع محبطا، فإن الأخطر فيه أنه ليس صدفة، بل نتيجة صناعة ممنهجة، فالتفاهة لم تعد مجرد انحراف إعلامي، بل مشروع متكامل، يخدم أجندات متعددة، ويضمن أن يبقى المواطن منشغلًا بأمور تافهة، بعيدا عن التفكير في قضاياه الحقيقية.

في هذا المشهد، يصبح الحديث عن محاربة التفاهة مجرد شعار استهلاكي، أكثر منه رغبة حقيقية في التغيير. لأن المؤسسات التي تصرخ ضد التفاهة، هي نفسها التي تمنحها المنصات والوقت والمساحة، وهي نفسها التي تستثمر فيها، وتحقق منها الأرباح.

وبالتالي، فإن السؤال ليس: هل هناك إرادة لمحاربة التفاهة؟ بل: هل هناك رغبة فعلية في إنتاج إعلام جاد وهادف؟

لأن الواقع يقول إن التفاهة ليست ظاهرة عرضية، بل استراتيجية يتم توظيفها بذكاء، إما لجذب المشاهدات، أو لصرف انتباه الجمهور عن القضايا الحقيقية، أو لضمان بقاء الإعلام داخل دائرة آمنة، لا تزعج أحدا ولا تخرج عن النص المطلوب.

وإلى أن يتحقق التحول المطلوب، سيظل الإعلام المغربي عالقا بين خطاب محاربة التفاهة وصناعتها، في مفارقة تكشف عن واقع إعلامي مأزوم، لا يبحث عن الحلول، بقدر ما يجيد التكيف مع السوق، والتلاعب بالشعارات، وتحويل الأزمات إلى فرص للربح والتوظيف السياسي.

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي