في طنجة، المدينة التي طالما سُميت “عروس الشمال”، خرج أحدهم أمام جمهور كبير، غالبيته الساحقة من الأطفال، وبدأ يردِّد على منصة عمومية بلا حيا بلا حشمة:”أنا نضرب الطاسة”!!
نعم، بكل ما في العبارة من بذاءة، ومن تطبيع مع الانحراف، ومن دعوة صريحة له..
هكذا، وبكل بساطة، يُزرع القبح في آذان أطفال لم يتجاوزوا بعد سن البراءة، وتُسكب المفردات السامة على رؤوسهم وهم يضحكون، لا لأنهم فهموا، ولكن لأن الكبار قالوا لهم هذا فن، وهذا فنان، وهذا ما عليكم أن تحبوه!
لكن قبل أن نُحمّل المسؤولية لذلك المغني “البهلوان”، دعونا نسأل أنفسنا بجرأة، من أين بدأ كل هذا الانحدار؟ ومن أعطى الإشارة الأولى لتحويل القبح إلى “استعراض جماهيري”؟
أتذكرون الوزير في الحكومة المسمَّى لحسن السعدي، حين خرج في نشاط حزبي للتجمع الوطني للأحرار وهو يرقص ويتمايل ويردد بحماس أغنية “مهبول أنا”؟
ظنها البعض لحظة هزل عابرة، أو انفعالا شعبويا غير محسوب، لكن “مهبول أنا” سيصير وزيرا في حكومة أخنوش الموقَّرة..
وهكذا أصبح بإمكان المسؤول السياسي أن يُصفق للرداءة، و أن يتحول بنفسه إلى واجهة لها، وأن يُضفي على الانحطاط مشروعية رسمية.
من “مهبول أنا” إلى “نضرب الطاسة”، مسافة قصيرة جدا، لكنها عنوان لانحدار قيمي وأخلاقي، ولبوصلة هناك من يريدها للأسف أن تضيع عن سبق إصرار وترصد..
المصيبة الكبرى أن جزءا ممن يُفترض أنهم مسؤولون عن حماية الفضاء العام، عن تطبيق القانون، عن صون الذوق العام وعن رعاية الطفولة، كانوا يتفرجون و يتظاهرون بعدم السماع.
ما حدث في طنجة جريمة مزدوجة، جريمة ضد الذوق العام، وجريمة ضد الطفولة..
وحين يُسمح لأغان غارقة في وحل الإدمان والانحلال أن تُقدَّم على أنها فن، أمام جمهور من القاصرين، فنحن لا نكون فقط قد استبحنا الفضاء العام، بل نكون قد بعنا مستقبلنا بثمن بخس.
الأطفال الذين يسمعون اليوم “نضرب الطاسة”، ويصفق لهم الكبار، لن يترددوا غدا في تجربتها فعليا.
هم لا يملكون بعد نضج التمييز، ولا الوعي النقدي، لكنهم يخزنون ذلك في ذاكرتهم الخام، ليعيدوا إنتاجه لاحقا في حياتهم وسلوكهم.
وهنا، تصبح الكارثة تربوية ونفسية ومجتمعية، قبل أن تكون فنية أو سياسية.
في المغرب، لدينا دستور ينص على حماية الأطفال، وقانون جنائي يُجرّم الإخلال العلني بالحياء، خاصة إذا تم في حضرة القاصرين، وبلد صادق على اتفاقيات دولية تُحتم عليه رعاية الطفولة وعدم تعريضها لأي نوع من التشويه المعرفي أو القيمي..
لكن ما نراه على الأرض هو عكس ذلك تماما.
فمن يُحاسب اليوم من سمح بمهرجان القاع هذا؟
من سيتحمل مسؤولية تعريض الآلاف من الأطفال لأغان أشبه بالقنابل النفسية؟ أم أن الجميع قرر أن يغني: “نضرب الطاسة ونزيد”..
ما حدث في طنجة لا يُمكن أن يمر، لا لأننا نخاف على الأطفال فقط، بل لأننا نخاف على ما تبقى من هذا الوطن من أن يذوب في سائل الرداءة.
اللهم إنا بلغنا..
تعليقات ( 0 )