من النادر أن يخرج القصر الملكي ليرد بشكل مباشر على أحد الفاعلين أو الأحزاب السياسية، وهو ما يجعل البلاغ الذي أصدره الديوان الملكي بشأن بيان الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية بشأن العلاقات مع إسرائيل، يحمل دلالات سياسية هامة حتى وإن كان الحزب الإسلامي قد حاول طي الصفحة بشكل سريع حتى لا يتحول الأمر إلى اصطدام مباشر بينه وبين الدولة في هذا الملف الذي كانت له، على الأقل، مسؤولية التوقيع على الإعلان الموقع مع إسرائيل بخط يد أمينه العام ورئيس الحكومة السابق سعد الدين العثماني.
في سنة 2016، أصدر الديوان الملكي بلاغا يرد فيه على تصريح لنبيل بنعبد الله اعتبر فيه أن “مشكلة هيئته السياسية ليست مع حزب الأصالة والمعاصرة، بل مع من يوجد وراءه”، مبينا أن المقصود بذلك هو “الشخص المؤسس لهذا الحزب، الذي يجسد التحكم”، وذلك في إشارة إلى المستشار الملكي فؤاد عالي الهمة. لذلك، خرج الديوان الملكي ليؤكد بأن “مستشاري صاحب الجلالة لا يتصرفون إلا في إطار مهامهم، وبتعليمات سامية محددة وصريحة من جلالة الملك، نصره الله”.
لكن، وبغض النظر عن الوزن السياسي لصدور بلاغ عن الديوان الملكي، فإن الأمر تعلق في نهاية المطاف بشخصية سياسية عبرت عن مواقف وليس ببلاغ يهم الحزب السياسي ككل، وهو ما جاء بشكل واضح في بلاغ الديوان الملكي حين أكد أن هذه التصريحات تخص صاحبها، “وليست لها أي علاقة بحزب التقدم والاشتراكية، المشهود له بدوره النضالي التاريخي، وبمساهمته البناءة في المسار السياسي والمؤسسي الوطني”.
لذلك، يبقى البلاغ الذي صدر بشأن موقف حزب العدالة والتنمية من العلاقات مع إسرائيل حاملا لأكثر من رسالة، ومؤشرا على غضبة عليا تجاه حزب أتقن منذ تجربة التدبير الحكومي لعبة الأغلبية والمعارضة في نفس الوقت، لكن الأمر هذه المرة يختلف تماما، بالنظر إلى أن المواقف المعبر عنها تتعلق بالسياسة الخارجية التي تخضع لتوجهات الملك، ولا يتم الاشتغال في رقعتها إلا ضمن هذه التوجيهات بغض النظر عن الأشخاص الذين يتولون تنزيلها، ومنهم وزير الخارجية الذي كان موضوع هجوم من طرف “المصباح”.
توبيخ سياسي
لقد حمل بلاغ الديوان الملكي أكثر من رسالة مباشرة إلى حزب العدالة والتنمية، ومنه إلى أي طرف قد يسعى إلى ممارسة نفس الأساليب بشأن السياسة الخارجية للمملكة. لذلك، أكد البلاغ أن الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية أصدرت مؤخرا “بيانا يتضمن بعض التجاوزات غير المسؤولة والمغالطات الخطيرة، في ما يتعلق بالعلاقات بين المملكة المغربية ودولة إسرائيل، وربطها بآخر التطورات التي تعرفها الأراضي الفلسطينية المحتلة”.
هكذا، وجه الديوان الملكي أربعة رسائل واضحة أولها أن “موقف المغرب من القضية الفلسطينية لا رجعة فيه، وهي تعد من أولويات السياسة الخارجية لجلالة الملك، أمير المؤمنين ورئيس لجنة القدس، الذي وضعها في مرتبة قضية الوحدة الترابية للمملكة. وهو موقف مبدئي ثابت للمغرب، لا يخضع للمزايدات السياسوية أو للحملات الانتخابية الضيقة”.
ثانيا، إن “السياسة الخارجية للمملكة هي من اختصاص جلالة الملك، نصره الله، بحكم الدستور، ويدبره بناء على الثوابت الوطنية والمصالح العليا للبلاد، وفي مقدمتها قضية الوحدة الترابية”. وثالثا، إن “العلاقات الدولية للمملكة لا يمكن أن تكون موضوع ابتزاز من أي كان ولأي اعتبار، لاسيما في هذه الظرفية الدولية المعقدة. ومن هنا، فإن استغلال السياسة الخارجية للمملكة في أجندة حزبية داخلية يشكل سابقة خطيرة ومرفوضة”.
أما الرسالة الرابعة فهي أن “استئناف العلاقات بين المغرب وإسرائيل تم في ظروف معروفة وفي سياق يعلمه الجميع، ويؤطره البلاغ الصادر عن الديوان الملكي بتاريخ 10 دجنبر 2020، والبلاغ الذي نشر في نفس اليوم عقب الاتصال الهاتفي بين جلالة الملك نصره الله، والرئيس الفلسطيني، وكذلك الإعلان الثلاثي المؤرخ في 22 ديسمبر 2020، والذي تم توقيعه أمام جلالة الملك. وقد تم حينها، إخبار القوى الحية للأمة والأحزاب السياسية وبعض الشخصيات القيادية وبعض الهيئات الجمعوية التي تهتم بالقضية الفلسطينية بهذا القرار، حيث عبرت عن انخراطها والتزامها به “.
لقد جاء هذا البلاغ كرد على الهجوم الذي تعرض له وزير الخارجية ناصر بوريطة في بيان للأمانة العامة لـ”البيجيدي” ورد فيه: “تستهجن الأمانة العامة المواقف الأخيرة لوزير الخارجية الذي يبدو فيها وكأنه يدافع عن الكيان الصهيوني في بعض اللقاءات الإفريقية والأوروبية، في الوقت الذي يواصل فيه الاحتلال الإسرائيلي عدوانه الاجرامي على إخواننا الفلسطينيين ولا سيما في نابلس الفلسطينية”، مشيرا إلى أن الأمانة العامة تعيد “التذكير بالموقف الوطني الذي يعتبر القضية الفلسطينية على نفس المستوى من قضيتنا الوطنية، وأن الواجب الشرعي والتاريخي والإنساني يستلزم مضاعفة الجهود في هذه المرحلة الدقيقة دفاعا عن فلسطين وعن القدس في مواجهة تصاعد الاستفزازات والسلوكات العدوانية الصهيونية، وفي الحد الأدنى التنديد بالإرهاب الصهيوني الذي لا يتوقف”.
“البيجيدي” ينحني للعاصفة
لقد تضمن الموقف المعبر عنه من طرف “البيجيدي” ليس فقط هجوما على بوريطة، الذي يعبر في نهاية المطاف عن مواقف سيادية في مسألة السياسة الخارجية، لكن أيضا توجيهات لاتخاذ مواقف يفترض أنها تخضع لتقديرات الدولة، وليس لتوجهات الحزب أو مواقفه الإيديولوجية، بدليل أن العمل الاستراتيجي الذي يقوم به المغرب عبر وكالة بيت مال القدس يحظى بتقدير كبير من طرف الفلسطينيين، الذين خرج شخصيات من بينهم لتشيد بالموقف المغربي مباشرة بعد الاصطدام الذي وقع بين القصر و”البيجيدي” حول هذا الملف.
لذلك، فقد فهم الحزب الإسلامي سوء تقدير موقفه في العلاقات بين الرباط وتل أبيب، بالرغم من التجربة الحكومية التي امتدت لـ10 سنوات، والتي يفترض أن تكون قد منحت الحزب خبرة كبيرة في فهم قواعد السياسة الخارجية للمملكة، وحدود تدخل الفاعل السياسي في مجال تبقى قوة المغرب فيه مرتبطة بتناغم المواقف والإجماع الداخلي، بغض النظر عن بعض التفاصيل التي قد يختلف معها هذا الطرف أو ذاك. ولهذا، فقد حرص بلاغ الديوان الملكي على الإشارة إلى “إخبار القوى الحية للأمة والأحزاب السياسية وبعض الشخصيات القيادية وبعض الهيئات الجمعوية التي تهتم بالقضية الفلسطينية بهذا القرار، حيث عبرت عن انخراطها والتزامها به”.
لذلك، لقد أدى بلاغ الديوان الملكي إلى إحداث ارتباك داخل الحزب الإسلامي، ما دفع أمينه العام عبد الإله بنكيران إلى اتخاذ قرار بمنع القيادات والأعضاء من الإدلاء بأي تعليق إلى حين اجتماع الأمانة العامة. هذه الأخيرة أصدرت يوم الأربعاء 15 مارس بلاغا نفت من خلاله أي تدخل في الاختصاصات الدستورية للملك وأدواره الإستراتيجية، وأي مغالطات أو مزايدات سياسوية أو أي ابتزاز.
واعتبرت قيادة “البيجيدي”، أن انتقاد تصريحات وزير الخارجية ناصر بوريطة جاء باعتباره عضوا في الحكومة، يخضع كباقي زملائه في الحكومة للنقد والمراقبة على أساس البرنامج الحكومي. وأورد الحزب في البداية أنه “تلقى بكل ما يليق من تقدير البلاغ الصادر من الديوان الملكي، باعتبار مكانة جلالة الملك حفظه الله وانطلاقا مما يكنه لجلالته من توقير واحترام”، مبرزا أنه “لا يجد أي حرج في تقبل ما يصدر عن جلالته من الملاحظات والتنبيهات، انطلاقا من المعطيات المتوفرة لديه، وباعتباره رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها”.
ونفت الأمانة العامة “نفيا مطلقا كل ما يمكن أن يفهم من بلاغها المذكور أنه تدخل في الاختصاصات الدستورية لجلالة الملك وأدواره الاستراتيجية والتي ما فتئ الحزب يعبر عن تقديره العالي لها، وتثمينه ودعمه الدائمين لما يبذله جلالته من مجهودات داخليا وخارجيا للدفاع عن المصالح العليا للوطن وتثبيت وحدته الترابية وسيادته الوطنية، وتجدد في هذا الصدد اعتزازها الكبير بموقف جلالة الملك، أمير المؤمنين ورئيس لجنة القدس، المبدئي والثابت اتجاه القضية الفلسطينية وتأكيده المتواصل على أنها في مرتبة قضية الوحدة الترابية للمملكة”.
وأكدت الأمانة العامة أن “ممارسات الحزب ومواقفه وبلاغاته مقيدة بما يخوله الدستور لأي حزب سياسي من كون الأحزاب تؤسس وتُمارس أنشطتها بحرية في نطاق احترام الدستور والقانون، وفي إطار حرية الرأي والتعبير المكفولة بكل أشكالها بمقتضى الدستور، ومن منطلق القيام بالواجب الحزبي والوطني في احترام تام للمؤسسات الدستورية ومراعاة للمصالح الوطنية العليا، وتنفي نفيا قاطعا علاقة ذلك بأي أجندة حزبية داخلية أو انتخابية ولا بأي مغالطات أو مزايدات سياسوية أو أي ابتزاز”.
كما أكدت الأمانة العامة بأن “بلاغها الأخير لا يخرج عن مواقف الحزب الثابتة والمتواترة في دعم القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني ورفض التطبيع، وهو ما يعبر عنه الحزب باستمرار وفي كل مناسبة عبر مؤسسات الحزب وهيئاته، وفي إطار الإجماع الوطني، وأنه بلاغ يأتي في سياق تفاعل الحزب المباشر مع تصريحات السيد وزير الشؤون الخارجية، باعتباره عضوا في الحكومة، يخضع كباقي زملائه في الحكومة، للنقد والمراقبة على أساس البرنامج الحكومي، الذي يتضمن الخطوط الرئيسية للعمل الحكومي في مختلف مجالات النشاط الوطني، وبالأخص في ميادين السياسة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية والخارجية”.
خلفيات تصريحات بوريطة التي هاجمها “البيجيدي”
هل أساء حزب العدالة والتنمية تقدير تصريحات بوريطة حول العلاقات مع إسرائيل؟ وأساء الحزب الإسلامي أيضا الظن بالمواقف المغربية عندما ربط العلاقات مع الإسرائيل بالأوضاع الإنسانية للفلسطينيين، متناسيا الدور الذي تقوم به المملكة في هذا الشأن؟ بداية لابد من العودة إلى بعض التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية، وسياقها الذي سيسعفنا على فهمها، ومنها تلك التي وردت خلال استقبال أوليفر فاريلي، المفوض الأوروبي المكلف بسياسة الجوار والتوسع.
لقد قال بوريطة خلال هذا اللقاء إن “هناك تعاوناً ثلاثياً إقيليمياً سوف نطوره بين المغرب والمفوضية وإسرائيل (..) في مجالات ذات اهتمام مشترك…حضرنا وثيقة سنوقع عليها قبل نهاية هذا الشهر، لتأكيد هذا البُعد الإقليمي الثلاثي في علاقاتنا”. هذا الموقف فهم منه، داخل قيادة الحزب الإسلامي، أن بوريطة يدافع عما أسماه بـ”الكيان الصهيوني” في اللقاءات الإفريقية والأوروبية، والحال أن هذا التصريح جاء ردا على عدد من الأطراف الأوروبية، التي تنظر بعين الريبة للعلاقات المتنامية بين الرباط وتل أبيب، والتي تهدد بكل تأكيد مصالحها. هذا الأمر يمكن فهمه أيضا من خلال الرسالة الواردة في بلاغ الديوان الملكي برفض الابتزاز من أي كان ولأي اعتبار، وهي رسالة ليست موجهة فقط لـ”البيجيدي” بل أيضا لكل طرف خارجي يحاول التدخل في السياسة الخارجية للمملكة.
من جانب آخر، لوحظ أن بيان الأمانة العامة الذي قاد إلى موقف الديوان الملكي سقط في فخ ربط العلاقات مع إسرائيل بالأوضاع الإنسانية للفلسطينيين، وهو ما يعطي الانطباع أن هذه العلاقات كانت على حساب الموقف المغربي من القضية الفلسطينية. والحال أن المغرب يحرص على تقديم مختلف أشكال الدعم الإنساني للفلسطينيين عموما، لاسيما من خلال الأعمال التي تقوم بها وكالة بيت مال القدس على امتداد 25 سنة. فخلال هذه الفترة، بلغ إجمالي التبرعات التي توصلت بها الوكالة حوالي 64,9 مليون دولار أمريكي، منها 22,3 مليون دولار في صنف تبرعات الدول، تمثل منها مساهمة المغرب 75 في المائة، بمبلغ يقارب 17 مليون دولار. كما أن المغرب يلعب دورا أساسيا في استغلال إحياء العلاقات مع إسرائيل لخدمة الفلسطينيين، ومن ذلك إعادة فتح معبر اللنبي بوساطة متفردة قادها الملك محمد السادس، وهو ما كان له تقدير كبير لدى الشعب الفلسطيني.
تعليقات ( 0 )