لطالما كانت أسعار المنفلتة للبصل دليلا قويا على فشل الحكومات التي تختبئ وراء الأرقام والتصريحات، وتعتبر التشكيك فيها مزايدات سياسية وشعبوية.
في سنة 2015، وتحت غطاء تنزيل “الإصلاحات الكبرى” أعلنت حكومة عبد الإله بنكيران عن قرارها تحرير أسعار المحروقات ورفع الدعم عنها بشكل كلي.
خطوة استبقها رئيس الحكومة بإطلاق سلسلة من التصريحات على شكل رسائل كان الهدف منها هو محاولة جس نبض الشارع، وتهيئته نفسيا لبعض “القرارات المؤلمة”، خاصة ما يتعلق بالرفع في الأسعار.
نوايا اتضحت جليا من خلال التقرير السياسي الذي قدمه بنكيران أمام المجلس الوطني، حيث أشار إلى وجود تأخر إصلاح صندوق المقاصة، قبل أن يردف بأن الحكومة تمكنت من التحكم في نفقاته بقرارات صعبة، و أن الشعب المغربي “تفهمها وتحملها”، سواء عند الزيادة المباشرة في أسعار الوقود بنوعيه (البنزين والكازوال) في سنة 2012 ،أو عبر اعتماد نظام للمقايسة.
الحكومة التي قررت حينها رفع يدها عن المحروقات، تجاهلت التحذيرات الكثيرة التي نبهت إلى أن القرار سيجعل القطاع منفلتا، و دون آليات تتيح للحكومة التصدي للتلاعبات المحتملة، والنفخ في الأسعار الذي من شأنه التأثير على تنافسية المقاولات ، والقدرة الشرائية للمواطنين وهو تماما ما حصل الآن.
تحذيرات واجهتها الحكومة بالصمت قبل أن تعرف أسعار المحروقات زيادات متتالية جعلتها تصل إلى مستويات قياسية تتناقض مع أسعار النفط على المستوى العالمي، ما جعل حكومة سعد الدين العثماني في وضع محرج للغاية خاصة بعد حملة المقاطعة، أما الحكومة الحالية فتجتهد علانية في وضع بلوكاج لمجلس المنافسة الذي لازال يعاني من الدهشة بعد إعفاء ملتبس لرئيسه السابق، ما دام عزيز أخنوش الرابح الأكبر.
حملة المقاطعة.. صفعة قوية وغير متوقعة
حملة المقاطعة نجحت في ارباك عدد من الشركات الكبرى المعنية بها، مع إلحاق ضرر بالغ بسمعة منتجاتها، بعد أن لقيت تجاوبا وصدى غير مسبوق.
الحملة طالت بالأساس شركة للمحروقات، وشركتين لمشتقات الحليب والمياه المعدنية..
الحملة جاءت أساسا كرد على الأسعار التي انفلتت من رقابة الحكومة، وهو ما فرض في محاولة لاحتواء حدة الغضب الإعلان عن لجنة برلمانية استطلاعية للبحث في وجود تواطؤ محتمل بين حيتان المحروقات، لكن اللجنة تعرضت للكثير من المطبات والصعوبات مند الإعلان عن تشكيلها، قبل أن يتم تجميد خلاصة التقرير الذي صاغته بعد شهور طويلة، ما جعل دعوات المقاطعة تمتد مثل رقعة زيت إلى عدد من الشركات التي اتهمت من طرف المقاطعين باستهداف جيوب المغاربة.
اللافت أن الحكومة، وبعد أن خمدت حملة المقاطعة، عادت لتنفي وجود أي تواطؤ بين الشركات، معتبرة أن الحديث عن وجود لوبي للمحروقات بالمغرب هو مجرد إشاعات لزعزعة الثقة في الحكومة.
المحروقات والبصل
جاء ذلك على لسان وزير الحكامة السابق لحسن الداودي الذي وضع المحروقات والبصل في سلة واحدة، بعد أن فند بشكل مطلق “وقوف لوبي المحروقات وراء الزيادات، وقال “نحن نعرف الأسعار في السوق الدولية، والثمن الذي تقتني به هذه الشركات، وأيضا نعلم هامش الربح، لكن التحرير فيه تداعيات كما حدث في أسعار البصل”.
كلام الدوادي قابلته تصريحات مثيرة أدلى بها عبد الله بوانو رئيس اللجنة التي أنجزت المهمة الاستطلاعية، حيث كشف أن بعض الشركات منيت بخسارة في الخارج، لكنها في المغرب ضاعفت أرباحها ثلاث مرات من 300 مليون إلى 900 مليون درهم في سنة واحدة، مؤكدا أن هامش ربح شركات المحروقات كبير جدا، وهو عكس ما صرح به وزير الحكامة السابق بعد أن دافع عن شركات المحروقات، وقال أنها لا يمكن أن تبيع بالخسارة في ضل ارتفاع سعر البرميل في السوق الدولي، فيما ربط الوزير الرباح ارتفاع السعر بكلفة التخزين والنقل.
بشحال الطاجين
رئيس اللجنة ذهب أبعد من ذلك، وصدم المغاربة حين قال أن تجميع هوامش الربح يجعلنا أمام مئات الملايير التي ضخت في حسابات هاته الشركات، مؤكدا أن بعض الشركات تحاول النفخ في قيمة الاستثمار للتغطية على هوامش الربح الضخمة، كما تحاول ربطها بخدمات أخرى مثل غسل السيارات و “الطواجن” التي تقدم كوجبات في محطات الاستراحة، ليشير لوجود شركات تضاعف ربحها ألف مرة رغم أنها “ماكادير طاجين ما كتغسل سيارات”.
تقرير اللجنة الذي وضع في نهاية الأمر بالأرشيف قدم خلاصات حول تركيبة السعر انطلاقا من الدول المنتجة، وهي التركيبة التي تضم التكرير والتأمين والضرائب التي تبقى الأقل في المغرب مقارنة بدول أخرى، وهو ما أسقط الحجة التي استندت إليها بعض شركات المحروقات من أجل تبرير السعر المرتفع.
في مقابل ذلك فإن الحكومة السابقة، وعوض أن تلتزم بتحمل النتائج والانعكاسات السلبية لما اعتبره “إصلاحا” وفق منطقها الخاص، فضلت الهروب إلى الأمام من خلال حكاية تسقيف الأسعار لاحتواء غضب المغاربة وإخفاء عجزها عن إجبار شركات المحروقات على إقرار “ثمن عادل”، وهي حكاية اتضح أن هدف الحكومة منها كان هو ربح الوقت من خلال جولات مفاوضات انتهت بتوبيخ علني للوزير الداودي من طرف لوي المحروقاب، ما جعل الرجل ينقلب على جميع تصريحاته السابقة ليؤكد بان الشركات تجني درهمين إضافيين “فوق الشبعة” عن كل لتر، وهو أمر يجب أن يتوقف.
من لحيتو لقم ليه
مغادرة الداودي للحكومة ورمي كرة المحروقات في ملعب مجلس المنافسة لم ينه ترافع الحكومة لصالح شركات المحروقات، بعد أن رفضت تخفيض الأسعار حيث تطوع الوزير الرباح للقيام بالمهمة، مؤكدا أن سعر المحروقات يبقى “عاديا” و”لا بأس به”.
مسار هذا الملف الدي انتهى بلجنة ملكية بعد ما حدث بمجلس المنافسة من “ضرب تحت الحزام” يكشف أن لوبي المحروقات قادر على تطويع الحكومة والمؤسسة التشريعية ومجلس المنافسة، ولجم كل من يقترب من أرباحه ومصالحه سواء من خلال التسقيف التي تحول إلى نكتة، أو النبش في خفايا الأرباح و تاريخ الاحتكار، وهو ما يفسر تطوع عدد من الوزراء لتبرير استنزافه لجيوب المغاربة، بدعوى أن ما ندفعه كفرق في السعر يعود إلينا في قنينات “البوطا” والتعليم والصحة ودعم الأرامل والعالم القروي …….؟.
الحكومة تطلب التبليغ بالمضاربين
اليوم لم تعد حكومة اخنوش التي ركبت على ضهر الدعاية المنفوخة، والقفة الانتخابية، تجد حرجا في التأكيد على أنها لا تملك عصا سحرية في مواجهة الغلاء.
وترى في مقابل ذلك أن على المغاربة أن يدخلوا وسط النار المشتعلة في السوق، ويتدبروا أمرهم دون صداع رأس للحكومة ووزرائها بعد أن انتهت مسرحية الجولات الاستعراضية للجن المراقبة بردود فعل ساخرة.
جاء ذلك على لسان الناطق الرسمي باسم الحكومة الذي قال دون خجل أن الحكومة تشتكي بدورها من الغلاء، وتؤكد أنه غير معقول وغير منطقي.
بايتاس زاد في العلم، بعد أن أحرق كل تبريراته القديمة وقال بأن الحكومة تجهل مكان وهوية المضاربين والمحتكرين، وأن على المغاربة التبليغ عنهم في طلب خطير يحمل استفزازا متهورا، واستهزاءا كبيرا بالشارع الذي يغلي يوما بعد يوم.
تعليقات ( 0 )