ربما لم تنفع كل خلطات التمويه والإلهاء التي استعملها المتحكمون في قطاع المحروقات للتغطية على الفساد الكبير الذي يعرفه هذا القطاع، على مرأى ومسمع من الحكومة، فخرج إلينا قبل أيام أحد البرلمانيين بسؤال كتابي غريب، يتحدث عن معطيات عجيبة حول استيراد الغازوال الروسي.
فعلا، لا يمكن تفسير هذه الخرجة إلا بمحاولة، مقصودة أو غير مقصودة، للتغطية على الفساد الحقيقي الذي يعرفه هذا القطاع..الفساد الذي يضرب تركيبة الأسعار، وكيف تحدد الشركات أرباحها وتكاليفها في غياب أي مراقبة للحكومة، وكأن الأخيرة ليس لها أغلبية في البرلمان من أجل تحريك المسطرة التشريعية لوقف هذا العبث.
نعم، هو عبث بكل المقاييس. فالشركات تراكم أرباحا خيالية في عز تراجع أسعار البترول إلى حوالي 80 دولار، بينما تقف حكومتنا مكتوفة الأيدي أما لوبي اقتصادي لا يتوانى في نهب جيوب المغاربة حتى في ظل أزمة اجتماعية واقتصادية يفترض أن تكون محركا لمراجعة آليات اشتغال هذه الشركات.
سؤال أم مناورة؟
لا نريد الدخول في النيات، ولا مساءلة السيد النائب البرلماني الذي تقدم بالسؤال الكتابي حول الغازوال الروسي، عن خلفيات هذه المبادرة، لكننا فعلا نتساءل إن كان النائب الاتحادي يستوعب حقيقة الأرقام غير الواقعية التي قدمها.
أولا، دعونا نسرد ما جاء في السؤال الكتابي حتى نستطيع تحليله. فقد بدأ كل شيء بالسؤال الذي تقدم به النائب عبد القادر الطاهر، عن الفريق الاشتراكي بمجلس النواب، يتهم فيه شركات المحروقات بشراء الغازوال الروسي من أجل تلبية حاجيات السوق المحلية، باعتباره الأرخص حيث لا يتجاوز ثمنه 170 دولار للطن، بما يقل بنسبة 70 في المائة عن الأسعار الدولية.
لكن الخطير في هذا السؤال هو عندما يقول النائب بأن هذه الشركات تعمد بعد شرائها للغازوال الروسي، إلى تغيير الوثائق والتلاعب بشواهد إقرار مصدر المواد النفطية، على أساس أن مصدره من الخليج أو الولايات المتحدة الأمريكية، لتقوم ببيعه بالثمن الدولي داخل التراب الوطني لتحقق بذلك أرباحا مهولة.
وزاد النائب في اتهاماته عندما أورد بأن كل ذلك يتم بتواطؤ صريح من طرف الشركات المسيرة لمخازن الوقود بميناء طنجة المتوسط، وبعيدا عن مراقبة الأجهزة المالية ما يقتضي بسط الإجراءات المتخذة لضبط مصادر استيراد الوقود وثمنه.
أولا من حيث المبدأ، لا يوجد قرار في المغرب بحظر استيراد النفط الروسي أو مشتقاته، وبالتالي فإن قيام الشركات المغربية باستيراد الغازوال من روسيا لا يعتبر في حد ذاتها عملية غير قانونية. طبعا هذا على خلاف الاتحاد الأوربي الذي قام شهر فبراير المنصرم بحظر استيراد المواد الطاقية الروسية، بما فيها المشتقات البترولية.
لنحاول الآن فهم الأرقام التي جاءت في هذا السؤال، والتي تفيد بأن السعر الذي تشتري به الشركات المغربية الغازوال الروسي هو 170 دولار للطن. هذا يعني أن سعر البرميل لا يتجاوز حوالي 24 دولار (كل طن يحتوي على 7 براميل)، وهو رقم خيالي وغير واقعي لعدة اعتبارات، وعلى رأسها أن السعر الدولي للغازوال يتجاوز في الأسواق حوالي 820 دولارا للطن، وعندما يتم عرضه من روسيا يمكن أن ينخفض إلى 30 دولارا أو 40 دولارا للطن لا أكثر. لذلك فإن متوسط السعر الروسي قد لا يقل عن 780 دولارا للطن.
طبعا هنا نتحدث عن السعر دون تكاليف الشحن. ذلك أن شركات سفن الشحن أصبحت تفرض أسعارا مرتفعة عن خدماتها، باعتبارها توجد في منطقة حرب، فضلا عن كون شركات التأمين قد عمدت بدورها إلى رفع الأسعار. فلا يمكن أن تؤمن عن سلعة قد تتعرض للقصف في أي لحظة بنفس سعر سلعة لها مسار آمن. وهذه معطيات تجعل مسألة اللجوء إلى الغازوال الروسي مكلفة، اللهم إذا كانت موسكو تخصص لنا حصة ما من مشتقاتها البترولية، وهذا مستبعد جدا لأننا لسنا لا داعمين لها في هذه الحرب ولا من حلفائها التقليديين.
عش الدبابير!
في عمق السؤال الكتابي المطروح، هناك محاولة عن قصد أو غير قصد لإيهامنا بأن السعر المطروح حاليا في السوق الوطنية هو السعر الدولي الموجود في مختلف الدول، وهذا في حد ذاته تمويه كبير عن حقيقة السعر الحقيقي الذي يفترض أن تباع به المشتقات البترولية (الغازوال والبنزين).
لقد عشنا لسنوات مواجهة غير متكافئة بين الشركات والمستهلكين، دون أن تتدخل أي حكومة من الحكومات المتعاقبة باستثناء تبادل الاتهامات حول من يقف وراء قرار التحرير، وكأن هذا القرار “قرآن منزل”، أو أكبر من دستور البلاد الذي تم تغييره بكل سلاسة ومرونة..
إننا بالفعل أمام حالة شاذة. فبينما يربط مجلس المنافسة تدخله بصدور المراسيم التطبيقية للقوانين التي تم تعديلها، تتأخر الحكومة حتى اللحظة في إصدار هذه المراسيم، بالرغم من استعجاليتها. هذا إذا افترضنا أن مجلس المنافسة لا يمكن في المرحلة الحالية أن يتخذ أي قرار..وإذا افترضنا أيضا أن الحكومة ليست بيدها حيلة، وإن كنا نعرف بأنه حتى في القوانين المتوفرة هناك إمكانيات لاتخاذ قرارات استثنائية على رأسها تسقيف الأسعار لفترة محددة.
فعلا، لن نختلف مع الوزير مصطفى بايتاس حين يتهم بنكيران بترك المغاربة فريسة للشركات..لكننا مع الأسف لم نجد من هذه الحكومة أي مبادرة لإبعاد هذه الحيتان المفترسة عن جيوب المستهلكين، اللهم إجراءات “الفشوش” التي تزيد “الشحمة على ظهر المعلوف”..فبدل أن تذهب رأسا إلى معالجة المشكل، اختارت إنفاق أزيد من 500 مليار سنتيم على دعم النقل.
اليماني: السعر الأقصى للغازوال يجب ألا يتجاوز 11.73 درهم
لا يبدو أن الأرقام التي قدمها النائب البرلماني حول الغازوال الروسي تقنع حتى من يناضلون ضد تغول شركات المحروقات، وعلى رأسهم الحسين اليماني، الكاتب العام للنقابة الوطنية للبترول والغاز التابعة للكونفدرالية الديمقراطية للشغل.
اليماني قدم ل”ميديا90″ توضيحات حول الأرقام المقدمة. فبالنسبة للأخير، “لا يوجد غازوال في العالم اليوم ب170 دولار أمريكي للطن أو حوالي 1.5 درهم مغربي للتر الواحد”.
ويؤكد في هذا السياق أن “متوسط السعر العالمي لا يقل عن حوالي 7 دراهم مغربية، ولا يمكن للخصم في الغازوال الروسي المسقف من لدن الاتحاد الاوروبي في 100 دولار للبرميل (زهاء 6.5 درهم مغربي) أن يصل الى الرقم المروج بالعلم أو الجهل المقصود، إلا إذا كنا أمام التجارة المحرمة بقوة القانون”.
وعليه، يرى الحسين اليماني أن “المقصود من الترويج للمعطيات الزائفة في ملف المحروقات، هو تمييع النقاش ورفع الحرج عن المستفيدين من الوضعية الراهنة”.
في المقابل، يرى اليماني أنه “وفقا للقانون المنظم للمنافسة وحرية الأسعار، يمكن لرئيس الحكومة عزيز أخنوش سحب المحروقات من لائحة المواد المحررة أسعارها من طرف رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران، والعودة لتنظيم أسعارها حسب تركيبة الأثمان التي كان معمولا بها حتى نهاية نونبر 2015”.
ويضيف في هذا السياق: “بعد الوقوف على متوسط الأسعار الدولية في الفترة الممتدة من 14 حتى 28 فبراير، ورغم ارتفاع سعر صرف الدولار، فإن الثمن الأقصى لبيع لتر الغازوال لن يتعدى 11.73 درهم وثمن لتر البنزين 12.42 درهم، وذلك خلال الفترة الممتدة من 1 مارس حتى 15 منه”.
وأشار في هذا السياق إلى أنه “بعد الاعتراف الصريح والواضح للناطق الرسمي للحكومة، بأن تحرير أسعار المحروقات كان قرارا متسرعا وأهلك المغاربة وتتحمل فيه حكومة العدالة والتنمية المسؤولية الكاملة، فإن رئيس الحكومة مطالب بالتدخل الجدي والعاجل من أجل التصدي لارتفاع أسعار المحروقات وللتداعيات المترتبة عن ذلك في تأجيج الغلاء وتنغيص الحياة على المغاربة”.
وختم اليماني تصريح ل”ميديا 90″ فالتأكيد على أن “إلغاء تحرير أسعار المحروقات والعودة لتكرير البترول عبر إحياء شركة سامير في ظل السياق العالمي المحفوف بمخاطر انقطاع الامدادات وبفرص الخصومات عن النفط الروسي، يبقى من القرارات المهمة المنتظرة وما دون ذلك، فيجوز القول وبدون حرج، بأن الحكومة الحالية هي شبيهة الحكومة السابقة وستبقى وفية لنهجها في المقامرة بالسلم الاجتماعي وتغليب مصالح اللوبيات المتحكمة في الأسواق على حساب المصلحة العامة للمغرب”.
تعليقات ( 0 )