في سنة 2019، انتفض زهير الشرفي الكاتب العام لوزارة الاقتصاد والمالية آنذاك، خلال المناظرة الوطنية للجبايات، في وجه لوبي المصحات الخاصة رافعا شعار “باركا”.. كانت صرخة هذا المسؤول العارف بخبايا القطاع، وهو الذي دبر لسنوات إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة، الشرارة الأولى التي ستشعل مواجهة ساخنة مع لوبي يعتبر نفسه أقوى من الدولة وقوانينها، بل ويتدخل من أجل توجيه النصوص القانونية في آخر ليل.
لم تستسغ “باطرونا” المصحات الخاصة انتفاضة الشرفي، فتحركوا لمقاضاته أمام المحاكم لأنه اتهمهم برفض التعامل بالشيكات وقبض “النوار” وصرخ في وجههم بأعلى صوته “واش هادي بلاد السيبة”، ما دفع المغاربة في تلك اللحظة إلى التضامن الواسع مع الرجل في سياق تميز بفضائح كبيرة فجرتها مؤسسات رسمية، ومنها تلك المرتبطة بالعمليات القيصرية التي يتم إجراؤها دون مبرر طبي.
لم تكن هبة اللوبي المتحكم في القطاع مجرد رسالة لإخراس مسؤول كبير في وزارة الاقتصاد والمالية، بل كانت أيضا رسالة للدولة بأن هذا اللوبي تغول وتجبر حتى على القوانين التي تسنها الحكومات ويصادق عليها البرلمان، بتعديلات تنبش فيها أياد خفية من هنا.. وهناك. إنه تغول يضع الدولة في مواجهة مع المجتمع، بينما تواصل هذه اللوبيات مراكمة أرباح طائلة والسطو على نفقات غير مستحقة من جيوب الفقراء والطبقات المتوسطة.
إن معاناة المغاربة اليوم مع هذه اللوبيات تستحق أكثر من وقفة.. فقد أصبحنا أمام جهات تتحكم في كل شيء.. تتحكم في المحروقات والعقار والصحة والتعليم والمواد الغذائية..وكل ما يستنزف جيوب المواطن.. حتى إننا في لحظة مواجهة جائحة فيروس “كورونا”، وجدنا أنفسنا أمام لوبي خطير يتحكم في “الأوكسيجين” ومعداته في السوق السوداء، وحتى داخل بعض المصحات التي كانت تقدم حصص التنفس بأسعار خيالية.
يحدث كل هذا بينما تواصل الحكومة، بسخاء منقطع النظير، ضخ الدعم ومزيد من الدعم لقطاعات جنت للمستثمرين فيها من أصحاب “الشكارة” أرباحا طائلة، جزء منها يدخل في خانة الثروة غير المشروع، في غياب أي تدخل حاسم للجهات الوصية من أجل وضع حد للفوضى التي استحكمت في عدد من القطاعات الاقتصادية التي تطبق قوانينها الخاصة بدون حسيب ولا رقيب تحت ذريعة “حرية المنافسة”.
لقد كان لافتا أن تخرج علينا الحكومة في كل مرة لتدافع عن لوبي المحروقات وتقدم تبريرات نيابة عن الشركات، تارة بربط ارتفاع الأسعار بالسوق الدولية وتارة أخرى بتقلبات صرف الدولار، وفي لحظات أخرى بدعوة من يركبون سياراتهم لنقل أبنائهم إلى المؤسسات التعليمية والالتحاق بمقرات العمل، بتحمل مسؤولية ما ينفقونه على هذه السيارات.. وكأن المشكل في المستهلك وليس في الجهة التي تتلاعب بالأسعار باعتراف البرلمان وحتى الحكومة السابقة.
مشكلة الحكومة أنها تنفق اعتمادات ضخمة على بعض القرارات غير النافعة، بدل أن تتحلى بشيء من الجرأة والشجاعة السياسية لتقف في وجه المتحكمين في قطاع المحروقات مثلا.. فلا يعقل أن تخصص الدولة أكثر من 200 مليار سنتيم من أجل دعم مهنيي النقل لمواجهة ارتفاع الأسعار، بينما لا تبادر إلى اتخاذ أي قرار ضد فوضى الأسعار، بالرغم من أن قانون حرية الأسعار والمنافسة يمنح الإدارة سلطة اتخاذ تدابير مؤقتة ضد أي ارتفاع فاحش للأسعار كما وقع منذ شهور.
تعليقات ( 0 )