الطريقة التي تعامل مجلس المنافسة مع الوضع غير التنافسي في سوق المحروقات، تجعلنا أمام حالة غريبة ومتناقضة في تعاطي دركي الاقتصاد مع مختلف الملفات التي تحال عليه أو تتم إحالتها بشكل ذاتي من أجل وقف الخروقات التي قد يتورط فيها بعض الفاعلين الاقتصاديين، بشكل يضر ليس فقط بالقدرة الشرائية للمواطنين بل يحد أيضا من قدرة الاقتصاد الوطني على التطور، ويدفع نحو وضع أقرب إلى الاحتكار حتى وإن لم يكن من طرف شركة واحدة.
في ملفات مماثلة، يقوم مجلس المنافسة بتحقيقات وأبحاث دقيقة يخلص فيها إلى وجود خروقات ما يتطلب فرض عقوبات مالية ثقيلة على المتورطين في ضرب قوانين حرية الأسعار والمنافسة. وآخر واقعة في هذا الصدد هي الغرامة التي صدرت في حق هيئة المحاسبين، بعد اتهامها من طرف المجلس بالاتفاق على تحديد سعر 500 درهم عن كل ساعة عمل، وهو ما اعتبر مخالف صريحة أو ما يسمى باتفاق مقاولاتي.
لم تمر هذه الواقعة بسلام، إذ سرعان ما تحرك المجلس من أجل إصدار غرامة تقدر بـ300 مليون سنتيم من أجل ردع هذه الممارسة طالما أن الأمر يتعلق بخدمة تخضع لمنطق المنافسة. ولن ننسى أيضا الغرامات الثقيلة الصادرة في حق شركة اتصالات المغرب من طرف المقنن القطاعي الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات، والتي وصلت في الغرامة الأولى إلى 3 مليار درهم وفي الغرامة الثانية إلى 2.45..وبغض النظر عن موقف الشركة وإثباتاها ضد الاتهامات لموجهة لها، فإن دور المقنن هنا يبرز بشكل جلي في ممارسة عمله الرقابي، وليس في التحول إلى مجرد أداة استشارية تصدر آراء دون أن تتبعها أية قرارات.
رحو..وطيف أخنوش
داخل مجلس المنافسة يوجد عدد مهم من المقررين والأطر الذين يتوفرون على خبرات عالية في مختلف المجالات، وعلى رأسها خبايا المال والأعمال. وإذا كان رأي مجلس المنافسة لا يحتاج إلى خبرة كبيرة من أجل قراءته وتفكيك مضامينه، فإن المثير في طريقة صياغته هو محاولة التغطية على الأرباح الحقيقية للشركات، وهو فخ سقطت فيه المؤسسة ربما بسبب استنادها بشكل كبير على الأرقام التي استقتها من تجمع النفطيين وباقي الشركات الناشطة في هذا القطاع.
ويتضح هذا الفخ بشكل جلي عندما نسلط الضوء على أكبر فاعل في القطاع، إن على مستوى الاستيراد أو التخزين أو التوزيع. فشركة “أفريقيا” التي يملكها رئيس الحكومة عزيز أخنوش تأتي على رأس القائمة في حصص الشركات المهيمنة. فإذا ما تحدثنا عن حجم الواردات في الفترة بين 2018 و2021، نلاحظ أن هذه الشركة تستحوذ على نسبة 21.2 في المائة، وهو الرقم تقريبا الذي نجده فيما يتعلق بقدرات التخزين، في حين تصل حصة هذه الشركة فيما يتعلق بعدد محطات الخدمة إلى 18.8 في المائة.
نحن إذن أمام فاعل يتوفر على أكبر حصة سوقية في قطاع المحروقات، وهو ما يفترض أن يؤثر بشكل مباشر على أرباحه الأعلى مقارنة مع جميع الشركات، حتى إن كانت هناك اختلافات في هوامش الربح. فالقيمة الإجمالية لما تستورده هذه الشركة يؤدي بشكل أوتوماتيكي إلى مراكمتها لأرباح طائلة، بل إنها تؤثر بشكل واضح في اتجاهات تحديد الأسعار وهوامش الربح في هذا القطاع.
ولعل ما يعزز هذا المعطى المرتبط بعلاقة حجم المبيعات بهامش الربح هو أن شركة “أفريقيا” برزت بشكل واضح بمنح أقل هامش ربح لمحطات الخدمة (0.35 للتر بالنسبة للغازوال و0.4 للتر بالنسبة للبنزين) في الفترة بين 2018 و2021. لكن وبالنظر إلى مكانتها كشركة رائدة في السوق، مما يعني أحجام مبيعات كبيرة، فإن هامش الربح الإجمال للمحطة يصبح مهما، وهي الخلاصة التي ذهب إليها المجلس.
لذلك، فإن محاولة التغطية على الأرباح الحقيقية لهذه الشركة بالحديث عن الربح الصافي وليس الإجمالي أمر لا يستقيم، بل يحمل تغليطا للرأي العام، لاسيما إذا اطلعنا على المعطيات التي أوردها مجلس المنافسة في هذا الرأي، والتي تكشف أن هذه الشركة تقوم باستثمار جزء مهم من أرباحها من أجل توسيع نفوذها في هذا القطاع عبر مشاريع تهم أساسا قدرات التخزين. فعلى سبيل الذكر، حققت شركة “Winxo” نسبة مردودية مالية تجاوزت بصفة عامة 60 في المائة، متبوعة بشركة “Vivo Energy Maroc” التي حققت نسبة عالية تراوحت ما بين 44 و52 في المائة. بالمقابل، لم تتجاوز نسبة المردودية المحققة من طرف شركتي “Petrom” و”Ola energy Maroc” 20 في المائة خلال الفترة سالفة الذكر. وتأرجحت هذه النسبة فيما يخص شركة “Afriquie SMDC” بين 11.5 و22 في المائة.
هذه الأرقام تبقى جافة ومضللة إن لم تتم مقارنتها بحجم الاستثمارات التي تتم بناء على هذه الأرباح. وهكذا، حققت الشركة الرائدة من حيث حصص السوق “Afriquia SMDC” استثمارا خلال فترة 2018-2021، بلغ في المتوسط 319 مليون درهم في مجال تطوير البنيات التحتية للتخزين وشبكة محطات الخدمة، فيما لم تقم شركة “Winxo”، بتعبئة سوى قرابة 185 مليون درهم، أي حوالي نصف المبلغ المرصود من قبل الشركة الأولى. كما أنجزت شركة “Vivo Energy Maroc” استثمارا قجره 285 مليون درهم.
مُقنن أم مجلس استشاري؟
منذ نشر مجلس المنافسة لتقريره الأخير حول “الارتفاع الكبير في أسعار المواد الخام والمواد الأولية في السوق العالمية، وتداعياته في السير التنافسي للأسواق الوطنية- حالة المحروقات (الغازوال والبنزين)، تعرضت المؤسسة لانتقادات عدد من الأطراف الذين اعتبروا أن دورها لا يكمن في إصدار التقارير وكفى، وإنما الأهم هو الإجراءات التي ستتخذها من أجل حماية القدرة الشرائية للمواطنين، وأيضا حماية الاقتصاد الوطني ووضع حد لتلاعبات الشركات المعرقلة لنشاط الشركات الجديدة.
عندما يقول مجلس المنافسة بأن بمستوى المردودية المالية المرتفع للغاية الذي يمكن أن يحققه هذا النشاط لا يشجع الفاعلين على التنافس بواسطة الأسعار في هذه الأسواق، طالما أن النتائج الإيجابية المتعلق بحسابتهم المالية تظل مضمونة أو شبه مضمونة…وعندما يقول بأن أن المنافسة على أسعار البيع في هذه الأسواق كانت شبه غائبة أو تم إبطالها.فهذه خلاصات خطيرة كان يفترض أن يذهب فيها المجلس نحو فتح تحقيق وإلى أبعد مدى من أجل الوقوف عند حقيقة ما يجري في هذا القطاع.
إن كثيرا من الخلاصات التي جاء بها المجلس لا تختلف كثيرا عن تلك التي وردت في مهام اللجنة البرلمانية الاستطلاعية، مع اختلافات من حيث تحيين الأرقام وإضافات لا نختلف حول أهميتها..لكن الذي يهمنا في هذا الشأن هو أن أهم دور للمجلس هو التقنين وليس تقديم الاستشارات أو الآراء.. فعندما ناضل الرئيس الأسبق عبد العالي بنعمور من أجل قوانين تمكن هذه المؤسسة من القيام بمهامه على أحسن الوجه، فإن الهدف لم يكن الحصول على اختصاصات استشارية تنتهي بإصدار آراء ودراسات بدون أثر، بل إن الهدف هو الوقوف في وجه اللوبيات التي تتحكم في جيوب المواطنين وتصد الأبواب في وجه أي منافس جديد، وهو ما نعيشه اليوم في قطاع عرف دخول 14 شركة جديدة منذ 2018، لكن حصتها في السوق لا تتجاوز 1 في المائة، بينما تستحوذ ثلاثة شركات فقط على أزيد من 50 في المائة..إنها اللامنافسة، أو التركيز الحاد كما وصفه المجلس.
تعليقات ( 0 )