وسط شلل حكومي شامل وغياب تام لمجلس المنافسة في لعب دوره، أحكمت شركات المحروقات قبضتها على القطاع وتحولت إلى الآمر الناهي في تحديد أسعار الوقود في المغرب، بعدما نجحت في نزع أسلحة الحكومة من خلال قوانين التحرير التي جعلت من الفاعلين في هذا السوق فوق المساءلة، حتى وإن كشفت تقارير رسمية، كالتي صدرت عن المؤسسة التشريعية، خروقات وتلاعبات خطيرة في الأسعار.
في وقت قياسي، ارتفعت أسعار المحروقات بالنصف لينتقل سعر الغازوال من 10 دراهم للتر إلى أزيد من 16 درهم مقابل أكثر من 18 درهما بالنسبة للبنزين.
وإذا كانت الأسعار في السوق الدولية قد كان لها تأثير مباشر على الوضع في السوق الوطنية، بعدما قفز سعر البرميل الواحد إلى أزيد من 120 دولار قبل أن يعود، خلال الأسابيع الأخيرة، للانخفاض بشكل ملحوظ ويتراجع إلى مستوى ما قبل الحرب، فإن واقع الأسعار في المغرب يحيل على تفاصيل أخرى تبقى الشركات أكبر رابح منها، أو كما يقول المغاربة “طالع واكل..نازل واكل”.
بمثل هذا المنطق، نجد أن أرباح شركات المحروقات لا تتجه نحو الانخفاض في الأزمات. فالأرباح تبقى مستقرة، أو تتجه نحو الارتفاع كما وقع بعد التحرير. وهكذا، فإذا كانت الأزمة الأوكرانية قد أدت إلى ارتفاع كبير في الأسعار، أثر بشكل مباشر على القدرة الشرائية للمغاربة، فإن شركات المحروقات في البلاد لم تتأثر في ظل استمرار الأرباح، مع غموض كبير يحوم حول نسبة التكاليف التي تحددها –بطريقة حرة وبعيدة عن عيون المراقبة- فيما يتعلق بالنقل والتوزيع.
أرباح رغم الأزمة
قبل تحرير قطاع المحروقات، كانت الدولة هي الجهة التي تحدد التكاليف والهوامش عند خروج المادة من الميناء إلى بيعها في محطات الوقود. ويشمل ذلك مجموعة من العناصر منها تكاليف وهوامش التوزيع، وهوامش تمويل المخزون، والضياع عن السيلان (perte de coulage)، وهوامش التوزيع والوسيط. واستنادا إلى الوثائق التي قدمت إلى اللجنة، يتبين أن كلفة التوزيع والتقسيط كانت تمثل 6 % بالنسبة للغازوال0,55 درهم و7 % بالنسبة للبنزين 0,69درهم.
وتطبق الدولة على المحروقات نوعين من الضرائب، أولها ضريبة الاستهلاك (TCI)، والتي حددت بقانون في 3,764 درهما لتر البنزين و2,422 درهما للتر الغازوال. أما الثانية فهي الضريبة على القيمة المضافة، والتي حددت بقانون في %10 من ثمن الاستيراد. هكذا، فإن هذه الضرائب ترقى إلى 37% من تكوين ثمن بيع الغازوال و47% من ثمن البنزين.
طبعا بالمقارنة مع الدول الأوروبية، فإن هذه النسبة الضريبية تبقى متواضعة حيث تصل إلى 66,4% بفرنسا، وتقارب 70% في المملكة المتحدة والدول الاسكندنافية، لكن ذلك ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار مستوى الدخل بالمغرب الأمر الذي يجعل من نسبة الضرائب المطبقة تثقل بشكل كبير القدرة الشرائية للمواطنين.
لكن بعيدا عن مستوى الضرائب، التي وإن رفضت الدولة تخفيضها فإنها تبقى على الأٌقل معروفة ومحددة بشكل مضبوط، فإن نسبة الأرباح التي تراكمها الشركات تبقى غامضة وغير قابلة للتحديد بشكل دقيق، لاسيما بعد تجربة التحرير التي أكدت أن الشركات راكمت أرباحا طائلة وفق منطقة “العرض والسوق”، بالرغم من أن المنافسة لم تتحقق في ظل وجود أسعار متقاربة وأحيانا متطابقة لمختلف الفاعلين في هذا القطاع.
في مرحلة معينة من هذه الأزمة، تم تسريب خبر يفيد بأن شركات المحروقات أصبحت تبيع الوقود بسعر الكلفة، أي بسعر الشراء في السوق الدولية بالإضافة إلى الضرائب وتكاليف النقل والتوزيع والتخزين والتأمين. خطوة يفترض أن تقدم عليها الشركات في ظل وضعية تؤثر بشكل مباشر على القدرة الشرائية للمواطنين، لاسيما وأن الفاعلين في هذا القطاع التهموا 1700 مليار أمام حكومة متفرجة، قدمت لهم جيوب المغاربة على طبق من فضة.
لكن وبعيدا عن مثل هذه التسريبات التي تحاول أن تقدم الشركات كمقاولات مواطنة، فإن الواقع مختلف تماما. ذلك أنه بالمقارنة مع الأسعار المطبقة في بعض الدول، وبمقاربة حسابية تأخذ بعين الاعتبار نسب الضرائب المطبقة، فإن الأسعار تظل مرتفعة في المغرب بنسب غير مبررة، لاسيما وأن الانخفاض الذي عرفته مؤخرا أسعار البترول في الأسواق الدولية، لم يكن له أي تأُثير على الوضع في المغرب.
فشل حكومي
صحيح أن الأسعار أصبحت محررة، وبأن الشركات تحدد هوامش أرباحها كما تشاء وفق منطق السوق، وهو وضع تتحمل فيه حكومة عبد الإله بنكيران المسؤولية الأكبر بعد صفقة غامضة قادت وزير الطاقة السابق عبد القادر اعمارة إلى تنزيل قرار استعملته شركات المحروقات للتحكم في السعر والربح حكرا على الشركات.
بيد أن هذا القرار لا يعني أن الحكومة لا تتوفر على آليات للتدخل. فقانون حرية الأسعار المنافسة يؤكد بشكل واضح وصريح على إمكانية اتخاذ إجراءات ذات طبيعة استثنائية، بما في ذلك أن تفرض على الشركات العاملة في هذا القطاع نسبة أرباح مخفضة بالنظر إلى الوضع المتأزم الذي يعيشه المواطن، أو تبدع حلولا أخرى في إطار ما يتيحه القانون من خلال المادة الرابعة منه.
تقول هذه المادة: “لا تحول أحكام المادتين 2 و3 دون إمكانية قيام الإدارة، بعد استشارة مجلس المنافسة، باتخاذ تدابير مؤقتة ضد ارتفاع أو انخفاض فاحش في الأسعار تعلله ظروف استثنائية أو كارثة عامة أو وضعية غير عادية بشكل واضح في السوق بقطاع معين. ولا يجوز أن تزيد مدة تطبيق التدابير المذكورة على ستة أشهر قابلة للتمديد مرة واحدة من طرف الإدارة.
هذه المادة تفتح الباب، في ظل الوضعية الاستثنائية التي يعيشها العالم، نحو إمكانية اتخاذ تدابير مؤقتة قد تكون من خلال قرار تسقيف أرباح الشركات وهو أمر ممكن سواء كان رأي مجلس المنافسة لصالح أو ضد القرار، لكن ترك الأمور تسير بهذه الطريقة في غياب أي تدابير استثنائية فإنه يزيد الوضع تعقدا. فالحكومة ترفض من جهة تخفيض الضرائب، وتحاول في نفس الآن ألا تمس بمداخيل الشركات، دون أن تكثرت إلى ملايين المغاربة الذي اكتووا بنيران أسعار المحروقات.
وفي ظل هذا الوضع المتأزم، تكتفي الحكومة بترديد نفس الأسطوانة التي تدعو من يملكون سيارة إلى تحمل كلفتها، أو اللجوء إلى وسائل النقل العمومية التي قامت بتخصيص دعم استثنائي لملاكها. وفي غياب تواصل ناجع للحكومة، تواصل شركات المحروقات بدورها نهج أسلوب “الصمت”، لاسيما بعدما أصبح تجمع النفطيين غير قادر على الخروج إلى وسائل الإعلام لتبرير ما يجري بعدما جرى تنبيهه إلى أن تصريحات رئيسه حول مجموع الشركات إنما يحيل على نوع من “الاتفاق المقاولاتي” المجرم قانونا.
تعليقات ( 0 )