إذا كانت أزمة نقص المياه التي يواجهها المغرب هذه السنة هي نتيجة حتمية لتراجع التساقطات المطرية، فإن هناك قناعة لدى مختلف الخبراء بأن سوء تدبير الموارد المائية المتوفرة، سطحية كانت أم جوفية، هي أيضا جزء من الأزمة، علما أن المغرب يتوفر على سدود بإمكانها على الأقل أن توفر الماء الشروب.
لقد مكنت سياسة الملك الراحل الحسن الثاني، والتي عززها الملك محمد السادس برؤية استراتيجية محكمة لتدبير الموارد المائية، المغرب من من التوفر على تحتية مائية مهمة، موزعة جغرافيا على كل جهات المملكة، والتوفر على رصيد مهم من المنشآت المائية يتمثل في 149 سدا كبيرا بسعة إجمالية تفوق 19 مليار متر مكعب و133 سدا صغيرا في طور الاستغلال، علما أنها كانت إلى حدود نهاية 2009 تبلغ 130 سدا كبيرا بسعة إجمالية تقدر بـ17 مليار متر مكعب، و63 سدا صغيراً.
ورغم التوفر على هذا العدد الكبير من السدود، فإن سوء تدبير الموارد المائية يؤدي، عند تراجع التساقطات المطرية، إلى بروز إشكالات عميقة ليس فقط بالنسبة للقطاع الفلاحي، بل يطال ذلك حتى المياه الموجهة للاستعمال المنزلي والتي تصبح تحت تهديد إجراءات تستهدف “الاستعمال المعقلن”، عبر تخفيض الصبيب، أو حتى من خلال تحديد مواعيد بعينها للتزود بالمياه.
الفلاحة تستنزف
تظهر كل الدراسات التي أنجزت في المغرب حول تدبير الموارد المائية أن القطاع الفلاحي يستولي على حصة الأسد من المياه. وتؤكد دراسة للمندوبية السامية للتخطيط إن الفلاحة تبقى القطاع الأكثر استهلاكا للماء في المغرب بحوالي 9 مليارات متر مكعب سنوياً، ما يمثل 87.8 في المائة من إجمالي الماء المستهلك.
ويلاحظ أن كمية الماء المستهلك من طرف القطاع الفلاحي هي أكثر مما يستهلكه قطاعا الصناعة والخدمات، إذ لا يتجاوز استهلاكهما 1.28 مليار متر مكعب. وفي المرتبة الثانية تأتي الإدارات العمومية وقطاعا التربية والصحة بنسبة 5 في المائة، إضافة إلى قطاعي البناء والأشغال العمومية بـ2 في المائة، والتجارة والكهرباء والفنادق والمطاعم بحوالي 1 في المائة لكل قطاع.
صحيح أن القطاع الفلاحي عرف تطورا كبيرا في اتجاه خلق قطاع فلاحي قادر على تصدير المنتجات إلى الخارج، مع تحقيق الاكتفاء الذاتي من عدد من المواد، لكن الذي وقع خلال السنوات الأخيرة هو أن البرامج الحكومية التي تم تنفيذها أدت في واقع الأمر إلى استنزاف الموارد المائية عبر تشجيع بعض الزراعات التي تستهلك المياه بشكل كبير.
نتحدث مثلا عن زراعة “الدلاح” والطماطم والفواكه الاستوائية وغيرها، والتي فجرت في بعض المناطق احتجاجات كبيرة بسبب استنزاف الموارد المائية. ونتذكر هنا ما وقع خلال السنوات الأخيرة بمنطقة زاكورة، عندما وجد السكان أنفسهم أمام أزمة عطش حقيقية، مقابل استمرار لوبيات “الدلاح” في امتصاص المياه الجوفية.
اصطدام أفيلال بأخنوش
تحولت الأزمة التي تفجرت بزاكورة إلى قضية مطروحة بقوة على أجندة الحكومة. ولا تخفي مصادر شاركت في حكومة بنكيران والعثماني كيف أن شرفات أفيلال التي أشرفت على هذا القطاع اصطدمت بعزيز أخنوش وزير الفلاحة السابق، بسبب تحميلها مسؤولية أزمة المياه في المنطقة لقرار استمرار زراعة الدلاح، ما جر عليه غضب أخنوش.
“يجب منع زراعة الدلاح”..كان هذا موقف شرفات أفيلال وهي وزيرة منتدبة في الماء سنة 2014 بعدما تحولت زاكورة إلى “جنة” لزراعة البطيخ الأحمر في وقت كانت الساكنة تقتسم جزء ضئيلا من مواردها المائية، بينما يهيمن القطاع الفلاحي على الباقي. وجدت أفيلال نفسها أمام لوبي فلاحي قوي بلغ به الأمر حد منع حفر أي آبار أو أثقاب مائية في المناطق المعروفة بعذوبة مياهها لتستمر الأزمة إلى أن تفجر الملف وتحول إلى “ثورة ضد العطش” كانت تستلزم تدخلا صارما لتوفير المياه دون المساس بـ”الدلاح المقدس”.
توالي سنوات الجفاف وعدم انتظام التساقطات المطرية وسوء حكامة تدبير الموارد المائية في البلاد جعل ساكنة عدد من المناطق تواجه شبح العطش وتراجعا حادا في الموارد المائية. فلم تعد الندرة تضرب بعض مدن وقرى الجنوب الشرقي كزاكورة ومحاميد الغزلان وتاكونيت والبليدة، بل إن خريطة “جفاف” الفرشة المائية اتسعت لتضرب المناطق الداخلية والشمالية في وقت يتم إهدار كميات مهمة من المياه -التي يفترض أن تخصص للشرب- في سقي العشب وتوسيع نطاق زراعات مستهلكة للمياه بكثرة دون دراسة القدرات الهيدرولوجية لكل منطقة.
“الدلاح”.. الفساد المائي
من الواضح أن استمرار المغرب في تبني بعض الزراعات المستنزفة للمياه، أدى بشكل واضح إلى وقوع أزمات متتالية تسبب في توقف تزويد المنازل بالمياه كما وقع في زاكورة. ولعل هذه المنطقة تمثل نموذجا حي لما يمكن أن إلى “فساد” حقيقي في تدبير الموارد المائية.
بالاطلاع على نتائج دراسة داخلية أنجزتها وكالة الحوض المائي سوس ماسة، تم التوصل إلى مجموعة من الخلاصات ذات الأهمية البالغة. الدراسة أوضحت أن واردات إحدى أهم الفرشات المائية بالمنطقة تقدر بـ10.34 مليون متر مكعب، لكن حجم ما يتم استعماله يصل إلى 15.57 مليون متر مكعب، أي بعجز يقدر بـ5,23 مليون متر مكعب. المثير في تفاصيل هذه الأرقام هو أن القطاع الفلاحي يستهلك 11.93 مليون متر مكعب، بينما لا يتجاوز حجم الماء الصالح للشرب 0.8 مليون متر مكعب سنويا.
زراعة البطيخ تأتي في مقدمة الزراعات الأكثر استهلاكا للمياه بما يصل إلى حوالي 7 ملايين متر مكعب سنويا، أي 58.31 في المائة مقارنة مع باقي الزراعات. وتأتي الحناء في المرتبة الثانية بـ19.40 في المائة، بينما لا تتجاوز نسبة المياه المستعملة في مجال النخيل 9.32 في المائة.
وعموما، فإن أزمة الموارد المائية ستؤدي إلى تراجع حصة الفرد. فقد سبق لمركز “بوليسي سانتر” التابع للمكتب الشريف للفوسفاط، أن أصدر تقريرا يكشف معطيات مقلقة حول استهلاك المياه والوضعية المستقبلية للمغرب. فقد انتقل نصيب الفرد من المياه منذ 1960 من 3500 متر مكعب إلى 750 مترا مكعبا حاليا. غير أن التحولات المناخية التي يشهدها العالم أصبحت تهدد حصة المغربي من الماء، التي قد تتراجع خلال الخمس سنوات المقبلة إلى 1500 لتر للشخص الواحد في اليوم (حوالي 550 متر مكعب سنويا).
تعليقات ( 0 )