كيف فضحت “حكايا” الفساد القديم عجز الحكومات عن الاقتراب من عش الدبابير

توالت التحذيرات من أن السلم الاجتماعي بالمغرب صار مهددا بفعل الصمت والعجز الحكومي.

تحذيرات تتزامن مع تصاعد الاتهامات الموجهة لرئيس الحكومة بالاستفادة من أزمة المغاربة لمراكمة الأرباح في سلوك انتهازي قد يوسع رقعة الغضب الشعبي.

اليوم لم يعد الحديث عن الأمر ضمن “الطابوهات”، بل صارت المؤسسات والشركات والتكتلات التي تصنع من معاناة المغاربة ثروات هائلة، معروفة.

كما اتضح أن لديها يدا طويلة قادرة على الالتفاف على أي خطوة لمنعها من كسب المزيد من المال على حساب المغاربة، وفرملة أي تقدم باتجاه تغيير هذا الوضع سواء تعلق الأمر بالمؤسسة التشريعية من خلال المهام الاستطلاعية، أو هيئات الرقابة والحكامة، كالمجلس الأعلى للحسابات، أو مجلس المنافسة الذي تحول لقط وديع بعد إعفاء رئيسه السابق، في ملابسات لم يتحل أي مسؤول بالشجاعة لكشف أسرارها في بلد صارت فيه عدد من القطاعات واللوبيات تتحدى الدولة علنا وتمارس ابتزازها بشكل صريح.

لنختصر الطريق، يبقى ملف المحروقات، ومعه حكاية الدقيق المدعم والملايير التي ترصدها الدولة، والتي تنتهي في جيوب البعض عوض أن يستفيد منها الفقراء، أكبر دليل على أن الحكومات بالمغرب لا تستطيع الاقتراب من عش الدبابير، ولا تملك جرأة قطع ولو ذراع من أذرع الفساد الكثيرة وهو السيناريو الذي عشناه مع حكومة اليوسفي والمحاكمات الكبرى التي ولدت فأرا، وصولا لحكومة بنكيران التي رفعت شعار محاربة الريع كفقاعة انفجرت سريعا، قبل أن يحين الدور على حكومة العثماني التي تعايشت مع الفساد، ومهدت له الطريق ليتغول على عهد حكومة اخنوش.

 الوزير الوفا وحكاية الدقيق

في سنة 2015 وصلت حكاية الدقيق أوجها، واعتقد الكثيرون أن الملف سيحسم، وأن فقراء هذا البلد سيعرفون اللصوص الكبار الذين يسرقون منهم رغيفهم.

جاء ذلك بعد أن خرج محمد الوفا وزير الشؤون العامة والحكامة حينها، ببلاغ جريء، وشجاع يحسب له، كشف فيه النزيف الذي تتعرض له ميزانية الدولة من طرف لوبي الدقيق المدعم، والتلاعبات الخطيرة التي تطاله من خلال سرقته من الفقراء وإعادة بيعه.

كما كشفت الوزارة أن التجار المتورطين في التلاعب بالدقيق الذي تدعمه الدولة بحوالي 2 مليار درهم سيتم التشطيب عليهم، وستتخذ إجراءات صارمة في حق المطاحن التي تتلاعب بجودته، والتي تم فعلا انذار عشرة منها.

ولأن محاربة الفساد ليست نزهة، أو رحلة صيد، فان هذا البلاغ والمداد الذي كتب به جعل لوبي الدقيق المدعم ينزل بكل ثقله، ليصبح التهديد مجرد ذكرى، ونوايا لم تكتب لها أن تخرج للوجود، خاصة بعد أن تجاوز الوفا الخط الأحمر، وأعلن أنه يفكر في مراجعة طريقة دعم الدقيق.

خمس سنوات بعد ذلك، سنكتشف مع حكومة أخرى رفعت بدورها شعار محاربة الفساد أن حكاية الدقيق المدعم لازالت مستمرة، وبنفس الأساليب، كما سمعنا أيضا أن لجينة مصغرة بمجلس النواب كان من المفترض أن تضع خطة عمل للمهمة الاستطلاعية المؤقتة التي ستتولى تتبع عمليات توزيع الدقيق، وأنظمة الدعم، بعد أن أكد وزير الحكامة السابق لحسن الداودي بأن القطاع لازال يعرف فسادا كبيرا… لكن الجميع دفن رأسه في الرمل من جديد وساد الصمت.

حكاية الدقيق المدعم هي مجرد شجرة صغيرة تختفي خلفها غابة شاسعة، لكنها في الوقت نفسه دليل قاطع على أننا ورش مكافحة الفساد “مهجور”، ولا يشتغل كما هو مطلوب منه بسبب مسؤولين “جبناء” عوض أن يقوموا بمهامهم في محاربة الفساد، فضلوا أن يوقعوا معه هدنة طويلة يتم تجديد صلاحيتها مع كل حكومة.

سيف خشبي

لهذا السبب بالتحديد استقبلت مصادقة حكومة العثماني على مشروع القانون المتعلق بالهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، بردود فعل متباينة، توزعت ما بين التفاؤل بإمكانية حدوث تغيير جذري وواقعي وحقيقي في تعاطي الدولة مع الفساد وملفاته، وبين من رأى أن نجاح الهيئة في مهامها رهين بتوفر مناخ يتجاوز الصلاحيات المهمة والواسعة التي منحت لها، بعد أن انتهت عدد من الخطط والتدابير والإجراءات والهيئات للفشل لأسباب لم تعد تخفى على أحد، في بلد تحاصر مؤسسته التشريعية تجريم الإثراء غير المشروع.

والواقع أن محاربة الفساد وعوض أن يتحول إلى آلية دائمة أصبح مجرد حشو لغوي يتعين على كل حكومة أن تنفخ فيها سنويا لتفادي خطيئة الدعاية الانتخابية، وهو ما يفسر كيف أن رئيس الحكومة السابق سعد الدين العثماني لم يجد خلال مؤتمر الدول الأطراف في الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد أي رقم أو ملف يستر به عورة الحكومة في مجال التصدي للفساد.

سعد الدين العثماني قال حينها إن الفساد يحرمنا من بناء 300 مستشفى مجهز كل سنة، لكن هذا الاعتراف الخطير لم يدفع الحكومة لتتخلى عن الكلام الذي يجتر في كل مناسبة، لتقدم بدلا عن ذلك أدلة وواقعية، وملموسة، للمغاربة على أنها جادة في محاربة الفساد، من خلال فتح الملفات المتراكمة التي تكشف كيف تم تبديد مئات الملايير في مشاريع وبرامج ودراسات وصفقات مغشوشة ومشبوهة، وكيف تحول بعض المسؤولين إلى مليارديرات خلال سنوات قليلة، وهي نية لا نجد لها إلى الآن أي صدى، بل ما نعاينه هو التمادي في إنكار وجود الفساد من خلال حصره في شكله التقليدي.

اليوم هناك إجماع لدى عدد من المراقبين على وجود تطبيع مع الفساد ليس فقط من خلال إنكار وجوده ، بل عبر خلق أجيال جديدة منه، من خلال العفو عن مهربي الأموال، وتجاهل ما ينشر من فضائح، وتجميد ملفات جرائم الفساد المالي، أو وضع التحقيقات المتعلقة بها في الثلاجة من خلال أبحاث تمتد لسنوات قبل أن تسفر وفي حالات نادرة عن قضايا تنتهي بدورها بأحكام ناعمة وجد مستفزة.

الاستعانة بـ”أخصائيين لمحاربة الفساد”

تصاعد حدة الانتقادات الموجهة لأداء الحكومة السابقة في مواجهة الفساد الذي يستنزف 5% من الناتج الداخلي الخام أي ما يعادل 50 مليار درهم سنويا، منها و27 مليار درهم بسبب الرشوة والاختلالات في الصفقات العمومية جعلها تعلن عن تكوين أول دفعة في محاربة الفساد، عبر تخصيص دورة تكوينية لمدة 9 أشهر لصالح 34 مفتشا، وذلك من خلال إرسالهم إلى الخارج، خاصة بريطانيا، قصد الاستفادة من التجارب المقارنة في محاربة الفساد”.

جاء ذلك بعد أن قال مستشار لرئيس الحكومة ولكي ينقذ ماء وجه هده الأخيرة أن المشكل يكمن في عدم توفير المغرب على “أخصائيين في محاربة الفساد”… لكن هؤلاء وضعوا في خانة “مختفون” ولم نر لهم أثرا منذ ذلك الحين.

هذه الخطوة تزامنت مع نشر “ترانسبارنسي” لغسيل الفساد بالمغرب من خلال تقرير بين العجز الفادح للحكومة، وكشف استمرار تغول الفساد في المغرب الذي تراجع في تصنيف مؤشر إدراك الفساد وفقد سبع رتب دفعة واحدة.

كما نبه ذات التقرير إلى أن أغلب المؤسسات العمومية سجلت معدلات مرتفعة في ما يخص الفساد والرشوة ما بين 2015 و2019،ورصد غياب إرادة سياسية حقيقية لمحاربة الرشوة من طرف الدولة، وهي الخلاصات التي جرت على الحكومة انتقادات شديدة من هيئات حقوقية معنية بحماية المال بعد أن طالبت بـ”الحزم والشجاعة في محاربة الفساد والرشوة ونهب المال العام والتصدي للإفلات من العقاب”، مؤكدة أن أي نموذج تنموي “مهما كانت مواصفاته ومخرجاته سيكون مصيره هو نفس مصير البرامج والمشاريع والسياسات العمومية الموجهة للتنمية، ما لم يتم القطع مع الفساد والرشوة واقتصاد الريع وربط المسؤولية بالمحاسبة”.

غياب الإرادة السياسية

حماة المال العام يؤكدون أن غياب الإرادة الحقيقية السياسية لمكافحة الفساد والإفلات من العقاب سيجعل المغرب رهينا للوضع الحالي، كما يؤكدون عمل الهيئة الوطنية للنزاهة لن يكون مكتملا في ظل قوانين ذات الصلة أتبث التجربة عدم صلاحياتها في المساهمة من الحد في استنزاف المال العام، وعلى رأسها قوانين التصريح بالممتلكات التي لا تتضمن العلانية وإبراء الذمة وشمول التصريحات للأزواج والأولاد البالغين، إضافة الى تهرب البعض من مسؤولياته في إقرار قوانين جيدة وفعالة كما حدث مع مشروع القانون المتعلق بالإثراء غير المشروع الذي لم يتضمن عقوبات سجنية للأشخاص المتورطين في قضايا الفساد. ومع ذلك تم إعدامه من طرف وزير العدل الحالي، بعد 8 سنوات من البلوكاج، وإذا ظهر السبب بطل العجب

هذا المعطى يحيل على عطب آخر يحول دون نجاح التصدي للفساد ومحاربته بشكل واقعي، وهو المسار الذي تتخذه بعض الملفات قضائيا أو خلال رحلة التحقيق وهو ما جعل المجهود المبذول على مستوى آليات الرقابة يعطي مفعولا عكسيا يفيد بأن الإفلات من العقاب له عدة محطات.

القضاء و”حكايا” الفساد القديمة

وبالعودة للمسار القضائي منذ سنة 2000 وهي السنة التي عرفت إحالة مجموعة من الفضائح المالية التي تشكلت بشأنها لجان تقصي الحقائق الى العدالة وعلى رأسها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الذي انتهى بحكم جد مخفف مع وقف التنفيذ، نجد أنه مسار بطيء جدا حيث أن تلك الملفات لا زالت في رفوف المحاكم، لتضاف إليها ملفات ساخنة لازالت في مراحل البحث منذ سنة 2015، كالبرنامج الاستعجالي لإصلاح التعليم.

بطء يعيد للواجهة المطالب بإنشاء قضاء متخصص في جرائم الفساد، ليضاف إلى التنظيم القضائي للمملكة باعتباره السبيل الوحيد لضمان النجاعة والحكامة في تدبير ملفات الفساد على المستوى القضائي، عوض الاكتفاء بستة أقسام بالمحاكم للجرائم المالية على المستوى الوطني، وهو ما يؤثر بشكل كبير على العملية نظرا لحجم الملفات وما تتطلبه من تركيز في التحقيق وما يتطلبه الأمر كذلك من توفير المزيد من الاطر البشرية المدربة والمتخصصة والمواكبة لتلك الجرائم.

1800 مليار لمحاربة الفساد

حكومة عبد الإله بنكيران كانت قد أطلقت بدورها الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد التي خصصت لها ميزانية تقدر بـ1.8 مليار درهم، ضمن برنامج كان من المفترض أن يشمل تحسين خدمة المواطن وبرنامج الأخلاقيات، وبرنامج الشفافية والوصول إلى المعلومة، وبرنامج الطلبيات العمومية، وبرنامج الإدارة الإلكترونية، وبرنامج الرقابة والمساءلة، وبرنامج نزاهة القطاع الخاص، علاوة على برامج تقوية المتابعة والزجر، والتواصل والتحسيس، وبرنامج التربية.

هذه الاستراتيجية بقيت بدون ملامح رغم أنها وضعت كهدف لها القطاعات الأكثر تعرضا للفساد، أو بمعنى أدق القطاعات ذات الاحتكاك المباشر ما بين المواطن والإدارة، ومحاولة الاشتغال عن طريق الوسائل الالكترونية الجديدة بعيدا عن الاتصال المباشر إضافة الى برامج التحسيس والتوعية وإدماج ذلك في المناهج التعليمية.

هذه القائمة الطويلة من النوايا لم يتم تفعيلها ليلمس المواطن أثرها، وهو ما يؤكد على أن قوة مؤسسات الحكامة، ونجاعة القوانين، تكتسب من الإرادة الحقيقية لمكافحة الفساد على مستوى الفعل، وليس فقط نص القانون… والنتيجة أن الفساد يعيش اليوم مع هذه الحكومة، وفي ظل هذه الأزمة، أحلى أيامه بعد أن صار مثل بحيرة دون ضفاف، والعبرة بملف المحروقات.

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي