الحديث عن قرب إلغاء برنامج “راميد”، وحذف دعم “تيسير”، والدعم الموجه للأرامل، هو مجرد خطوة في إطار جس نبض الشارع,
يحدث هذا في انتظار الكشف عن صيغة الدعم المباشر التي لازالت تخضع لتنقيحات متتالية تعكس التردد الذي يطبع عملية بالغة التعقيد قد تكون لها كلفة باهظة في ظل تنامي مشاعر السخط الشعبي، بسبب انفلات موجة الغلاء.
الأمر ليس سلوكا حكوميا جديدا، بل هو مسلسل انطلق مند مدة، و وصل ذروته مع حكومة بنكيران الذي وظف رفع الدعم سياسيا ضد خصومه.
جاء ذلك بعد أن تحدث مرارا عن وقوف وزير من العيار الثقيل، ورجل أعمال، وأمين عام لحزب سياسي ضد الدعم المباشر للفقراء، أي ضد إصلاح شامل لصندوق المقاصة، وهو بذلك كان يقصد رئيس الحكومة الحالي عزيز اخنوش.
بنكيران وحين توليه للمنصب أدلى بتصريحه المقتضب، وفضل ككائن سياسي عدم الخوض في التفاصيل بشكل طرح تساؤلات كثيرة حول حقيقية الصراع الذي دار حول هذا الدعم، و خلفياته وتأجيلاته والصيغة النهائية التي سيتم بها وعن سر عدم بوح بنيكران بجميع الكواليس التي أحاطت بملف غاية في الحساسية.
هو نفس التساؤل الذي ينسحب على حكومة اخنوش الآن، بعد أن فضل سعد الدين العثماني بدوره القفز على هذا اللغم، بعد توليه منصب رئيس الحكومة، ليتحول ملف الدعم إلى كرة نار يتم دحرجتها من حكومة لأخرى غير أن موعد الحسم في هدا الملف بات وشيكا في ضل المؤشرات الحمراء لمالية للدولة، والتحديات المرتبطة بتمويل التغطية الصحية .
ثقوب الدعم
اللافت أن المندوبية السامية للتخطيط قامت بدارسة قبل 3 سنوات، ووقفت عند ثقوب كثيرة تسيل منها ملايير الدعم لتصب في صالح الأثرياء والميسورين ممن يزاحمون الكادحين في مساعدات تتدخل الكثير من الأيادي لتحريف مسارها.
الدراسة التي أنجزتها المديرية، وإن كانت تدخل في إطار وضع الأصبع على مكمن الخلل، إلا أن المداد الذي كتبت به، وما ورد فيها من معطيات مرتبطة ب”اختلاس”30 في المائة من أموال الدعم من طرف الميسورين، كانت توطئة صريحة لرفع الدعم بحجة أن ملايير الدراهم تخطئ عنوانها.
الرائحة الغربية التي انبعثت من هذه الدراسة كشفت أن قرار رفع الدعم محتوم ومحسوم، و أن المعطيات التي قدمت هي لتسهيل مهمة صانع القرار، في توجه يكرس التنفيذ الحرفي والأعمى لتوجيهات البنك الدولي وكبار المقرضين، وفي تغييب تام لحالة الاحتقان الاجتماعي التي أصبحت ظاهرة وجلية ومستفحلة.
الدراسة زاوجت بين الحديث عن نسب الفقر و”نزيف” الدعم في وصفة تزامنت مع الحديث المتواتر والمتردد للحكومة عن نيتها المضي في إصلاح صندوق المقاصة بعد “تشاور عميق”، قبل ان تصبح هذه النية واضحة وصريحة مع ما جاء به النموذج التنموي من مشاريع تحتاج لتمويلات فلكية ستمر حتما عبر رفع الدعم… وهنا لابد من التساؤل عن كواليس اللقاء الذي جمع اخنوش بالحليمي قبل يومين، وأسباب النزول
الملايير المهدرة
إلى الآن أهدرت الدولة مئات الملايير من الدراهم في عدد من البرامج والمشاريع التي وضعت لتعزيز الحماية الاجتماعية، وتقليص نسب الفقر والهشاشة دون أن تحقق نتائج تتناسب مع قيمة المبالغ التي صرفت، لذا لا غرابة أن تجتهد الحكومة أكثر فأكثر في تغطية هذا العجز من خلال نحت تعاريف جديدة، وغريبة، للفقر وللطبقة المتوسطة استعدادا لرفع الدعم عن الغاز والسكر والدقيق وطي صفقة صندوق المقاصة، في مقابل تفعيل الدعم المباشر الذي لازالت صيغته غامضة وملتبسة رغم ما صرح به الناطق الرسمي مصطفى بايتاس وما قاله فوزي لقجع الويزر المنتدب المكلف بالميزانية.
هذا السعي الذي يشبه اللعب بالنار خرج فعلا للوجود، و وضعت الخطوة الأولى على أرض الواقع بعد مصادقة الحكومة على مشروع قانون رقم 72.18 المتعلق بـ”منظومة استهداف المستفيدين من برامج الدعم الاجتماعي، وبإحداث الوكالة الوطني للسجلات” التي شرعت في عملها فعليا.
ورغم أن هذا القانون جاء وفق مهندسيه ل”تحسين مردودية البرامج الاجتماعية، تدريجيا، وعلى المدى القريب والمتوسط”، عبر اعتماد “معايير دقيقة وموضوعية وباستعمال التكنولوجيات الحديثة” إلا أن أسئلة كثيرة وتخوفات مشروعة تلاحق الكيفية التي سيفعل بها هذا الدعم، في ضل الاعطاب الفادحة التي رصدت في عدد من التجارب السابقة، والتي كشفت أن معظم البرامج الاجتماعية يتم التعامل الميزانيات المرصودة لها ك”وزيعة”، كما يتم تحريف مسارها،وأن الأغنياء والميسورين يزاحمون فقراء البلد في الاستفادة منها، وأن ما تبقى من طبقة متوسطة ستدفع الثمن.
غموض وشكوك
النموذج الصارخ هو ما حصل في برنامج”راميد” ،بعد أن أقر رئيس الحكومة السابق بأن هناك 10 في المائة من المنتمين لغير الفقراء يحملون هذه البطاقة على علاتها، هذا فضلا عن الضبابية والغموض الذي يلف وصفة التنزيل والكلفة التي ستتحملها الطبقة المتوسطة التي دفعت إلى الآن ثمنا فادحا لعدد من الخطوات والقرارات التي اتخذتها الدولة، منذ الشروع في سياسة التقويم الهيكلي مطلع الثمانينيات، وذلك في ضل التعريف المنحرف الذي تتبناه الحكومة للطبق المتوسطة، والذي يجعل من يتقاضون4000 درهم شهريا مصنفين ضمن هذه الطبقة.
وبدا واضحا أن أسئلة الشفافية و الحكامة كانت حاضرة عند الإعداد لهذا القانون الذي نص على إحداث “آليات لتعزيز التناسق بين برامج الدعم الاجتماعي”، وذلك من خلال “تصور موحد لتنفيذ هذه البرامج بشكل منصف وشفاف، وتجاوز الاشكاليات التقنية التي تعيق إيصال الاستفادة الفعلية من هذه البرامج إلى الفئات التي تستحقها فعليا”.
وتقوم هذه المنظومة، حسب القانون الذي صادقت عليه الحكومة على أربع مرتكزات أساسية، أولها يهم السجل الوطني للسكان، حيث نص على إحداث “هذا السجل بهدف معالجة الطابع الشخصي للمغاربة والأجانب المقيمين بالتراب المغربي، وكذا التحقق من صدقية المعطيات المتعلقة بهم خلال اعتماد معرف مدني واجتماعي رقمي يمنح لكل فرد مسجل بهذا السجل”.
كما توعد القانون، “كل من قام بتصريح كاذب بسوء نية عند التقييد بالسجل الاجتماعي الموحد، من أجل الاستفادة من برامج الدعم الاجتماعي المقدم من طرف الادارات العمومية او الجماعات الترابية أو الهيئات العمومية، بغرامة يتراوح مبلغها بين 2000 و5000 الاف درهم”، وذلك دون الاخلال بحق هذه المؤسسات المذكورة، بـ”استرجاع الدعم المحصل عليه بدون وجه حق”.
هاته العقوبات الناعمة، والتي تعمل بمنطق “اللي يحصل يودي” تغدي التوجس الكبير الذي يتعامل به المغاربة مع التصريحات والنوايا الحكومية المعلنة إلى الآن بشأن الدعم المباشر وآليات تصريفه،ومن الجهة التي ستستفيد منه بعد رفع الدعم، كما أن الأسئلة تمتد للتغطية الصحية التي سيستفيد منها حاملو بطاقة “راميد” والتي قد تجعلهم ملزمين بدفع واجب الاستشفاء واسترجاع جزء فقط مما دفعوه وهو إشكال ترفض الحكومة الإجابة عنه بوضوح.
سوابق حكومية
والواقع أن ثقة المغاربة في صدقية الخطوات الحكومية المرتبطة بتفكيك منظومة الدعم، وحديثها عن “مساعدة الفقراء”كانت متنها ضعيفا منذ البداية، قبل أن تتعرض لهزة عنيفة أجهزت على ما تبقى لها من مصداقية،.
جاء ذلك بعد تحرير أسعار المحروقات الذي تعاملت فيه حكومة بنكيران بسياسة “من لحيتو لقم ليه” بشهادة وزير الحكامة السابق الذي اعترف بأن المغاربة هو من دفعوا ثمن تحرير أسعار المحروقات ضمن خطة الحكومة لطي صفحة صندوق المقاصة.
النتيجة أن الحكومة وفرت ملايير الدراهم التي وضفتها بمنطق الصدقة في مشاريع الحماية الاجتماعية، فيما جنت الشركات فوائد فلكية، و صارت تربح درهمين في اللتر لواحد، وكل ذلك على حساب جيوب المغاربة الذين أصبحوا يدفعون للطرفين معا.
التخوف من سيناريو ما بعد رفع دعم الدولة واعتماد الدعم المباشر، سبق وأن حاولت حكومة العثماني احتوائه من خلال الحديث عن الاستعانة بتجارب ناجحة لعدد من الدول كالهند والبرازيل متناسية أن الأمر يتعلق باقتصاديات قوية، تحفزها معدلات نمو متصاعدة، تجذب الاستتمارات و تخلق آلاف من مناصب الشغل.
اليوم نعاين كيف أن حكومة اخنوش تجرب أن تطلق بالون اختبار تلو آخر بشأن كيفية التعامل مع تمويل التغطية الصحية وضرورة تخفيف عبء الدعم.
تفعل ذلك مستفيدة من خطأ قاتل ارتكبته حكومة العثماني بعد أن تم تسريب خبر مسموم عن رفع وشيك للدعم عن قنينات الغاز في آخر انفاس ولايتها لتحصد النتجية سريعا، بعد أن ظلت وعلى امتداد سنوات تتخوف من أن يؤدي أي تسرع في هذا القرار إلى حادث سير انتخابي عنيف.
اليوم ومع حكومة رئيسها أكبر تاجر محروقات، وأكبر مستفيد من تحرير القطاع، سنعاين كيف سيقامر بالجمع بين تنفيذ تعليمات البنك الدولي بتفكيك ما تبقى من منظومة الدعم، بعد أن أصبحت الدولة تراهن على ملاييره كطوق نجاة لميزانيتها العامة، في وقت تجاوزت فيه مشاعر السخط الاجتماعي لدى المغاربة المؤشر الأحمر .
تعليقات ( 0 )