الأيادي الخارجية التي تؤجج النزاع الجزائري -المغربي

قراءة في خلفيات وأدوار بعض الأذرع الإعلامية

 
لأسباب متفرقة وبأشكال مختلفة، تنشط دول ومنظمات قارية ودولية ‒في مقدمتها بعض “القوى العظمى”‒ في دق إسفين الخلاف والحقد بين الجارين اللدودين المغرب والجزائر. طبعا هي تجد البيئة ممهدة لفعل فعلها الخبيث بنجاح، وتبدأ بأعلى المستويات من قادة البلدين ودبلوماسيتاهما إلى أصغر القطاعات الحكومية. لكن ما لا يظهر في الصورة هو أن ثمة عملية ممنهجة، يلعب فيها الإعلام بفرعه المتنوعة على الخصوص (الدولي والمحلي)، دورا خطرا للشحن العاطفي بمشاعر عداء متنامية بين شعبي البلدين يستحيل أن تنمحي مهما تغيرت الأجيال. 
وفي هذا الصدد تخصصت قنوات وصحف ومواقع دولية لديها متابعين بمئات الملايين، في الاشتغال على تأجيج النزاع القائم منذ عقود بين الشعبين. لا تكتفي بالتركيز على أخبار بعينها تخص النزاع الجزائري-المغربي بينما تهمش أخرى، وفق أساليب يفهمها كل إعلامي. بل وتتعمد تأجيج الخلافات بينهما من خلال تنظيم حفلات مواجهة عنيفة بين ضيوف من الجزائر والمغرب، وتتعمد توجيهها بعناية نحو صدام “الضيوف” بعضهم ضد بعض. وهي برامج تحظى للأسف بنسب مشاهدة عالية من مواطني البلدين المغاربيين، وتجد امتدادا لها في المعارك الكلامية على صفحات الشبكات الاجتماعية.
 
 
تبدو كل من فرنسا وإسبانيا على الخصوص أقرب الدول الأوروبية إلى المغرب والجزائر. لا فحسب بسبب الماضي الاستعماري، بل وأيضا بالنظر إلى أهمية المصالح الكبيرة التي لكل من باريس ومدريد في البلدين المغاربيين. لكن دولا أخرى تمتلك هي الأخرى أذرعا إعلامية نافذة، نظير قطر وروسيا والولايات المتحدة، تستثمر بواسطتها في تأجيج النزاع الجزائري المغربي أو تهدئته، بحسب ما تفرضه مصالحها.
 
إعلام مسموم
المعروف أن الإعلام الفرنسي العام والخاص يعتبر أكثر ميلا إلى الجزائر منه إلى المغرب، لأسباب حار في فهمها حتى أكثر المحللين الفرنسيين حيادا. بعضهم يفسر هذه الحقيقة بكون الفرنسيين عموما، يعتبرون أكثر ميلا نحو الجزائر لكونها “جمهورية”. بينما يرى محللون آخرون بأن سر “الهوى الجزائري” الذي يسكن الروح الفرنسية، يجد جذوره في الماضي الطويل لفرنسا في “مقاطعتها” الجزائرية.
وأيا يكن السبب، فإن المتابع لبرامج الإعلام الفرنسي لا يحتاج لذكاء خارق، كي يدرك بأن الدولة العميقة في بلاد موليير تمارس التوجيه والضغط على كل من المغرب والجزائر (بحسب ما تتطلبه مصالحها). خصوصا عبر أذرعها الإعلامية النافذة، خصوصا قناة “فرانس24” المملوكة للحكومة الفرنسية، والتي يتابع قنواتها أكثر من 380 مليون مشاهد عبر العالم، وأيضا بواسطة بعض الصحف الواسعة الانتشار في مناطق النفوذ الفرنكوفوني عبر العالم. فالبرامج الحوارية والربورتاجات والتحقيقات وغيرها من البرامج التي تقدمها هذه القناة، لا تمل أبدا من تأجيج الخلافات السياسية والتاريخية وحتى الرياضية والثقافية بين الجزائر والمغرب. بينما تهتم وسائل الإعلام الإسبانية أكثر بالمغرب، الذي لا يسلم من حملاتها المعادية خصوصا من خلال ترويج أخبار مضللة. بينما يبدو هذا الإعلام مهادنا إن لم نقل “متفهما” في ما يخص الجزائر وربيبتها الجبهة الانفصالية.
ونفس الدور المشبوه تلعبه أذرع الإعلام الروسية الناطقة بالعربية، وخصوصا منها قناة “آر تي”RT (“روسيا اليوم” سابقا) الرسمية الناطقة باسم الحكومة الروسية، التي تعد أول قناة تلفزيونية إخبارية في العالم تصل إلى 10 مليارات مشاهدة، والمعروفة في الأوساط الإعلامية بأنها سلاح إعلامي بيد الكرملين.
إن هذه المنابر والمنصات وأخرى كثيرة غيرها، لا تكتفي بالتركيز على أخبار بعينها تخص النزاع الجزائري-المغربي بينما تهمش أخرى، وفق أساليب يفهمها كل إعلامي. بل وتتعمد تأجيج الخلافات بينهما من خلال تنظيم حفلات مواجهة عنيفة بين ضيوف من الجزائر والمغرب، وتتعمد توجيهها بعناية نحو صدام “الضيوف” بعضهم ضد بعض. وهي برامج تحظى للأسف بنسب مشاهدة عالية من مواطني البلدين المغاربيين، وتجد امتدادا لها في المعارك الكلامية على صفحات الشبكات الاجتماعية.
 
الإبتزاز الفرنسي
تمثل قناة فرنسا24(بالعربية) نموذجا غريبا في ما يتصل بمعالجتها الإعلامية للشأن المغربي. ورغم أنها يفترض أن تهتم بشؤون جميع الدول الناطقة بالعربية، إلا أنها متحاملة بشكل فج ومباشر وتكاد تحصر اهتمامها على المغرب منذ سنوات، وخصوصا عندما تتعرض المصالح الفرنسية بالمغرب للخطر. فقد لاحظنا تنظيمها حملات إعلامية معادية للمغرب، بخصوص “قضية” اتهام بلادنا بالتجسس بواسطة البرمجية الإسرائيلية “بيغاسوس”، وبعدما تم تفويت صفقة بناء ميناء الداخلة لمقاولات مغربية وليس فرنسية، وبعدما ظهرت نوايا المغرب في التوجه نحو مقاولات صينية لإقامة الخط الثاني من القطار فائق السرعة بأسعار أقل بكثير من المقاولات الفرنسية، وغيرها من الأمثلة كثير. والنتيجة كانت دائما تقديم برامج “حوارية” و”ربورتاجات” وتغطيات خبرية متحاملة على المغرب، بغرض الابتزاز والضغط على أصحاب القرار في بلادنا. بل إن الابتزاز بلغ مداه بنشر أخبار مضللة، تفيد بأن السلطات المغربية قد سحبت اعتماد فرانس24 بالمغرب. وهي المزاعم التي جرى نفيها بسرعة.
بالمقابل، وبعد سنوات ظلت خلالها العلاقات بين الرئيس الفرنسي وحكام الجزائر سمنا على عسل، إلى درجة أن ماكرون دافع عنهم ولم ينصف “الحراك” المطالب بدولة مدنية، أصبح نفس حكام قصر المرادية “غير شرعيين” فجأة، وتذكرت القناة أن الانتخابات التي أوصلتهم أو نُظمت تحت حكمهم مزورة، الخ… وهو ما حمل حكام المرادية على طرد فرانس24 من البلاد مطلع الصيف الماضي.
أما بالنسبة إلى الصحافة المكتوبة، فأمثلة التناوب في التحامل على البلدين وتأجيج الخلافات بينهما تصعب على العد. ومن آخر ما رشح في هذا الباب، ما نشرته يومية “لوبينيون” الفرنسية الثلاثاء الماضي، على لسان أحد “صقور” المؤسسة العسكرية، من أن لسان حال جزء من جنرالات الجزائر يردد بأن “شن الحرب على المغرب يجب أن يتم اليوم، لأنه بعد 3 سنوات سوف يكون المغرب أقوى من الجزائر بسبب دعم إسرائيل له “. وفي المقال تفاصيل أخرى تشي بأن جيران الشرق يعدون العدة لإعلان الحرب على بلادنا، وبأنهم أقوى عسكريا من المغرب…
 
“التسريبات” الإسبانية
تختلف الحالة الإسبانية من حيث كون المؤسسة العسكرية فيها، ما زال لها نفوذ سياسي. ويمنحها ذلك هامشا للتأثير في القرارات الهامة للدولة. ولممارسة الضغط داخليا أو خارجيا أو توجيه الرأي العام وفق رؤية المؤسسة أو أحد أجنحتها، تعمد إلى مد “تسريبات” لصحف مقربة منها أو من اليمين العنصري الإسباني، خصوصا منها “إل إسبانيول” و”لاراثون” و”إل كونفدنسيال” (أو أحيانا حتى لصحيفة “إل باييس” المقربة من رئيس الحكومة اليساري بيدرو سانشيز).
وطبعا لا تكون هذه التسريبات اعتباطية، بل إنها تتم في توقيت معين ولتحقيق غرض محدد. خصوصا أن الاعلام المغربي (والعربي بشكل أقل) أصبح أكثر متابعة في السنوات الأخيرة لما ينشره الإعلام الإسباني، خصوصا المكتوب منه.
من الصعب التشكيك في قلق الجارة الشمالية، من احتمال اندلاع حرب بين الجزائر والمغرب. وبالتالي فإن حرص الديبلوماسية الإسبانية المُعلن على القيام بوساطة، لتقريب وجهات النظر بين جاريها الجنوبيين قد تحقق منفعة أكيدة لمدريد. لكن، كيف نفهم سر التسريبات التي لا تتوفق للإعلام الإسباني بشكل يكاد يكون منتظما؟ لنأخذ مثالا قريبا.
نشرت صحيفة “لاراثون” الإسبانية في عددها لـ 5 نوفمبر الماضي، خبرا نسبته إلى “مصادر مطلعة” يقول إنه بعد مرور يومين على بيان الرئاسة الجزائرية الشديد اللهجة، الذي يتهم المغرب بقتل ثلاثة جزائريين بقصف في الصحراء، سلمت الجزائر معدات عسكرية للبوليساريو، شملت مركبات عسكرية؛ لتستخدمها الجبهة في تنفيذ “أعمال انتقامية” ضد الرباط ردا على حادث مقتل الجزائريين. وهو الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام المغربية على نطاق واسع، وألهب طبعا الحرب الدائمة بين الجزائريين والمغاربة على الشبكات الاجتماعية.
خمسة أيام بعد هذا الخبر، نقلت صحيفة “إل باييس” الإسبانية، في تقرير لها بعدد 10 نوفمبر الماضي، تأكيدات للمخابرات الإسبانية بشأن مقتل الجزائريين الثلاثة. زعمت فيها بأنه جرى استهداف شاحنتيهما بطائرة بدون طيار. فتناقل الإعلام الجزائري هذا الخبر الغريب لأنه يؤكد رواية سلطات بلادهم الرسمية، في وقت كانت الأمم المتحدة (عن طريق المينورسو) بالكاد شرعت في التحقيق في ملابسات الحادث الغامض!

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي