الشنّاق هو ذلك الرجل الذي يتجول في الأسواق الأسبوعية، يضع يده على ظهر الخروف، يفاوض الفلاح على السعر، ثم يبيعه بهامش ربح يرضي جشعه أكثر مما يرضي عدالة السوق.
كان هؤلاء الوسطاء، الذين لا يزرعون ولا يربّون المواشي، هم المستفيدون الحقيقيون من تجارة لا ينتجون فيها شيئا، بل فقط يشترون بثمن ويبيعون بثمن أعلى.
اليوم، لم يختف الشنّاقة، بل تغيرت مواقعهم وملابسهم.
بدل “الجلابة” والضراعية، صاروا يلبسون السموكينغ وربطات العنق، وبدل أسواق الماشية، انتقلوا إلى قاعات البرلمان، مجالس الحكومات، ومكاتب الشركات الكبرى.
المشهد لم يتغير كثيرا، اختلفت قواعد اللعبة فقط. في الأسواق الشنّاق وسيط بين الفلاح والمستهلك، أما اليوم، فقد أصبح الشنّاقة الجدد وسطاء بين المال والسلطة، بين النفوذ والمصالح، بين الشعب والقرارات التي تصنع مستقبله.
في البرلمان، الشنّاقة الجدد يبيعون “التزكيات”، يشترون المقاعد، ثم يفاوضون على تمرير القوانين التي تخدم الدوائر التي أوصلتهم إلى هناك.
لا صوت لهم إلا حين يرتفع السعر، ولا موقف لهم إلا حين يكون هناك ربح مضمون.
في الحكومة، الشنّاقة الجدد يحملون الحقائب الوزارية، لكن أيديهم مشغولة بحساب الأرباح. يوقعون باسم “المصلحة العامة”، لكن حساباتهم البنكية تكبر مع كل قانون يُفصّل على مقاس شركاتهم، مع كل صفقة عمومية تفتح على مقاس “أصحابهم”. يتحدثون عن “تحرير الأسعار”، لكنهم يحتكرون السوق، يرفعون شعار المنافسة، لكنهم لا يتركون أحدا ينافسهم..
في الاقتصاد، هم الذين يربحون من “تحرير الأسعار”، لكنهم يرفضون تحرير المنافسة، يرفعون شعارات السوق الحر، لكنهم يسيطرون على السوق حتى لا يبقى فيه غيرهم.
يبيعون المازوط بأسعار قياسية، ويدفعون الفلاح البسيط نحو الإفلاس، والمواطن إلى الاختناق!!
كان الشنّاق إلى وقت قريب رجلا بسيطا، يبحث عن لقمة العيش، يمارس دور الوسيط في سوق مفتوح، أما الشناق الجديد، فهو صانع السوق، ومحتكرها، ومقرر قوانينها.
لم يعد دوره يقتصر على الاستفادة من الوضع، بل أصبح هو من يصنع الوضع ليستفيد.
في الماضي، كان الفلاح يعرف أنه ضحية، اليوم المواطن العادي لا يدرك أنه يدفع الثمن لصالح نخبة تسيطر على الاقتصاد والسياسة معا.
كان الشناق القديم يربح دراهم معدودة في كل رأس غنم، أما الشناق الجديد، فيربح الملايير من تحرير الأسعار، الاحتكار، والامتيازات الريعية.
المفارقة أن هؤلاء الشناقة الجدد يرفعون شعارات الإصلاح، يتحدثون عن “العدالة الاجتماعية” و”المصلحة الوطنية”، بينما الحقيقة أن السوق باتت مغلقة عليهم وحدهم، وهذه الشعارات بريئة منهم..
مجلس المنافسة، معطل، وهيئات الضبط خاضعة لنفوذهم.
أما البرلمان فهو ملئ بمن يدينون لهم بالولاء.
في النهاية، يبقى السؤال: إذا كان الشناق القديم يرفع السعر في الأسواق الأسبوعية، فمن يرفع الأسعار في محطات الوقود، وفي المواد الغذائية، وفواتير الماء والكهرباء..
الإجابة واضحة: إنهم الشناقة الجدد، الذين لم يعودوا يكتفون بالمضاربة في الخرفان، بل صاروا يتاجرون في السياسة، في الاقتصاد، وفي قوت المواطن البسيط.
تعليقات ( 0 )