من السهل جدا أن نتتبع سردية أزمة العلاقات الفرنسية الجزائرية، وأسهل من ذلك، أن نعتبر أن دعم باريس لمغربية الصحراء هو سبب وصول الأزمة لهذا السقف العالي، لكن، هذه السهولة في هذين المستويين، تواجه سؤال أوضاع مشابهة كان عليها الموقف الفرنسي دون أن تصل الأمور إلى هذا المستوى، بل وتواجه سؤال التباين مع أوضاع أخرى مقابلة نشبت فيها الأزمة بين البلدين دون أن تكون الصحراء هي السبب في ذلك، فقد اندلعت أزمة كبيرة بين باريس والجزائر في اللحظة التي كانت الرباط وباريس على صفيح ساخن من التوتر والصراع امتد لأكثر من أربع سنوات.
نتذكر جيدا أن العلاقة بين الجزائر وباريس كانت جد متوترة ما بين 2019 و 2020، فقد اتهم قائد الأركان الفريق أحمد قايد صالح، باريس أكثر من مرة بمحاولة التدخل للتأثير في المرحلة الانتقالية في الجزائر، كما عبرت الجزائر عن انزعاجها من تأخر فرنسا في تهنئة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، بعد فوزه في رئاسيات ديسمبر 2019، وبلغت الأزمة ذروتها لما نشر الجيش الفرنسي صورة على حسابه بتويتر تضمنت اسم الجزائر وعلمها إلى جانب العلم الأمازيغي واسم كمنطقة القبايل، فقامت الخارجية الجزائرية باستدعاء لكزافيي دريونكور سفير باريس لديها، وحصل الاستدعاء لمرة ثانية، احتجاجا على بث قنوات حكومية فرنسية فيلما وثائقيا عن الحراك الشعبي الجزائري يظهر شبابا ينتقد السلطات وقيادة الجيش الجزائري.
لا نريد في الواقع أن نقدم أدلة أخرى إضافية على أن أزمة العلاقات الجزائرية الفرنسية في مكان آخر غير الصحراء المغربية، فإذا كان من الممكن تفسير أزمة العلاقات الجزائرية الفرنسية في فترة 2019 ـ 2020، بتباين الرؤية حول مستقبل الحكم بعد عبد العزيز بوتفليقة، وأثر ذلك على المصالح الفرنسية في الجزائر، فإن فترة 2020 ـ 2022، عرفت تمظهرات أخرى للأزمة بعيدة عن الصحراء المغربية كذلك، فقد بدأت بأزمة تقليص التأشيرات الممنوحة لرعايا جزائريين إلى النصف، ثم تطورت في سبتمبر 2021 باستقبال ماكرون لأحفاد «حركي» (عملاء جزائريون عملوا مع فرنسا) والإدلاء بتصريحات نفى فيها وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي للجزائر، وهو ما قوبل جزائريا باستدعاء سفيرها في باريس للتشاور احتجاجا على هذه التصريحات، لتتلو ذلك خطوة أخرى تصعيدية، بمنع الجزائر الطائرات العسكرية الفرنسية من عبور الأجواء الجزائرية في اتجاه دول الساحل الإفريقي.
هذه الأزمة، بتمظهراتها الخطيرة، كانت بعيدة عن قضية الصحراء المغربية، لسبب بسيط هي أن الرباط دخلت في توتر صامت مع كل من مدريد وباريس عقب الاعتراف الأمريكي بالسيادة المغربية على الصحراء، انتهى في مارس 2022 بتحول في الموقف الإسباني، لجهة الاعتراف بأن مبادرة الحكم الذاتي تعتبر الساس الأكثر جدية لحل النزاع حول الصحراء.
ليس غرضنا الأساسي الوقوف على تفسير أزمة العلاقات الفرنسية الجزائرية ما بين 2019 و2022، لسببين اثنين، أولهما أن هناك أكثر من اعتبار مفسر، فسواء تعلق الأمر بمضي الجزائر في مسار انتقالي للحكم (بعد بوتفليقة) على غير الهوى الفرنسي، أو تعلق بخلفيات انتخابية (رئاسيات 2022) سعى فيها ماكرون إلى اجتذاب أصوات اليمين المتطرف (أزمة التأشيرات والتصريحات المتعلقة بالذاكرة وترحيل المهاجرين غير النظاميين) أو تعلق ببيداغوجية الصراع من أجل حل الأزمة بامتيازات فرنسية أكبر، فإن هذه الاعتبارات كلها لا علاقة لها بموضوع الصحراء.
والسبب الثاني، أن العلاقات الجزائرية الفرنسية ستدخل مرحلة جديدة مع زيارة إيمانويل ماكرون لها في غشت 2022.
يأتي الاعتراض على هذا التحليل بأن التوتر في العلاقات الفرنسية الجزائرية عاد مرة أخرى للبروز، خاصة لمّا أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في البرلمان المغربي في أغسطس/اب 2024 أن حاضر ومستقبل الصحراء هو في ظل السيادة المغربية، وهو اعتراض وجيه، لأن الجزائر نفسها عبرت عن استنكارها الشديد من دعم فرنسا لسيادة المغرب على صحرائه، في اللحظة التي ابلغت مصالحها بفحوى الموقف، أي في يوليو/تموز 2024.
لكن في الواقع، ثمة فجوة كبيرة ما بين إصلاح العلاقات الفرنسية الجزائرية بزيارة ماكرون للجزائر (غشت 2022) وقرار باريس دعم مغربية الصحراء (في غشت 2024) تطرح السؤال عن طبيعة العلاقات في هذه المرحلة، وهل تطورت في الاتجاه الصحيح، أم عرفت موجة أخرى من التوترات؟
الوقائع تشير إلى أن شهر العسل لم يمض عليه أكثر من خمسة أشهر، لتفجر قضية أميرة بوراوي شرارتها الأساسية، وتتجمد قنوات الاتصال السياسي والدبلوماسي، بعد استدعاء الجزائر سفيرها من باريس للتشاور، واتهامها لباريس بانتهاك السيادة الوطنية، بترحيل الناشطة الجزائرية أميرة بوراوي من تونس إلى فرنسا، وهو ما أدى إلى القضاء على مكاسب زيارة ماكرون في أغسطس 2022، وتجميد زيارة الرئيس عبد المجيد تبون التي كانت مرتقبة لباريس.
أزمة 2024-2025، أخذت أبعادا مختلفة، فمن أزمة سجن الكاتب الجزائري ذي الجنسية الفرنسية بوعلام صنصال، إلى أزمة المؤثرين الجزائريين في فرنسا، وقيام فرنسا بترحيل أحدهم، ورفض السلطات الجزائرية استقباله، وتهديد فرنسا الجزائر في حالة رفضها استعادة مواطنيها المرحلين من فرنسا بإجراءات انتقامية، إلى أزمة التأشيرات، ثم حرمان مسؤولين جزائريين من الدخول للتراب الفرنسي بعد حادثة وتورط مهاجر جزائري غير نظامي في الهجوم الجهادي الذي أوقع بمولوز قتيلا وخمسة جرحى كانت باريس قد طلبت من بلاده استعادته، فقوبل بالرفض، وصولا إلى تهديد السلطات الجزائرية بـ«اتخاذ إجراءات مماثلة وفورية» بما ستترتب عنه «عواقب غير محسوبة على جميع جوانب وأبعاد العلاقات الجزائرية الفرنسية».
الكثير من المحللين فسروا هذه الموجة الجديدة من التوتر بقضية الصحراء، مستندين في ذلك إلى زيارتين للصحراء المغربية، لكل من وزيرة الثقافة الفرنسية ورئيس مجلس الشيوخ الفرنسي، وما ترتب عن ذلك من موقف جزائري شديد الاستنكار. والواقع، أن هذه الزيارات، ليست سبب الأزمة، بل مجرد ورقة تستعملها باريس لتقوية موقعها التفاوضي مع الجزائر.
ليس ثمة أدنى شك أن قضية الصحراء، والموقف الفرنسي الداعم لسيادة المغرب عليها يشكل محددا مهما في تحديد طبيعة العلاقات الفرنسية الجزائرية، لكن في كل محطات التوتر بين البلدين، بما في ذلك محطة الوفاق القصيرة (من صيف 2022 إلى فبراير 2023) تبدو قضية الصحراء هامشية، أو مجرد قضية لتغذية التوتر الناشئ عن سبب آخر، وأن المشكلة، التي تتخذ تمظهرات مختلفة، هي في الواقع، تعبير عن أسلوب في الضغط تمارسه فرنسا على الجزائر لكسب مزيد من المصالح.
ما يؤكد ذلك، أنه في خضم غبار التوتر والصراع، لم تتأثر المصالح الحيوية لباريس في الجزائر، فقد ارتفعت المبادلات التجارية الفرنسية الجزائرية بنسبة 5.3 في المائة على أساس سنوي سنة 2023، وتصدرت الجزائر المرتبة الثانية كشريك تجاري إفريقي لفرنسا.
التقدير أن فرنسا حسمت موقفها من الصحراء، وقدرت تأثير ذلك على الموقف الجزائري، لكنها تفهم مزاج صانع القرار السياسي الجزائري وسيكولوجيته المتمحورة حول المنجز إزاء عدو الأمس الاستعماري، ولذلك، هي تضغط بكل الملفات، وهي جاهزة للتراجع عن تصريحاتها المتعلقة بالذاكرة أو مواقفها المرتبطة بالتأشيرات لتقدم له هذا المنجز النفسي، لكن بثمن أكبر مما حصلت عليه في أغسطس 2022.
بلال التليدي
كاتب وباحث مغربي
عن القدس العربي
تعليقات ( 0 )