حين تصبح التفاهة فنا والبذاءة تأثيرا !!

في زمن الانحطاط الثقافي، يصبح المعيار الحقيقي للنجاح هو القدرة على إثارة الجدل، لا على الإبداع.

لم يعد الفن مرتبطا بالقيمة، بل بعدد المشاهدات والتفاعل على منصات التواصل الاجتماعي.

ولأن “الترند” أصبح هو المحرك الأساسي لهذا الزمن، فلا غرابة أن يخرج علينا أشباه الفنانين، وأشباه المؤثرين، ليقدموا لنا عروضا من الإسفاف، تارة باسم العفوية، وتارة أخرى باسم حرية التعبير.

فنان، أو هكذا يُعرّف نفسه، يظهر علنا ليعترف بتعاطيه الحشيش، بأظافر متسخة تنطق بالإهمال وتبعث على الاشمئزاز، ويسب ويشتم أمام الجمهور، دون أن يجد حرجا في ذلك، ودون أن تتحرك الجهات المعنية لوقف هذا العبث.

والأغرب من ذلك، أن هذه التصرفات لا تؤدي إلى عزله أو محاسبته، بل على العكس، تمنحه شهرة إضافية، ويصبح فجأة “نجما” بفضل موجة من الجدل الرخيص التي يركبها الجميع، وفي الغد تجده عضوا في لجنة تحكيم لبرنامج فني!!

ما يحدث ليس مجرد حالة معزولة، بل هو انعكاس لموجة أكبر من التسطيح.

في الماضي، كان يُنظر إلى الفنان كشخصية تحمل رسالة، تسهم في تشكيل الوعي الجماعي، وتنقل قيم الجمال والفكر.

أما اليوم، فقد تحول “الفن” إلى استعراض فج، حيث يكون السب والشتم أكثر إثارة للاهتمام من أي محتوى فني حقيقي.

هذا التسطيح لم يكن ليحدث لولا البيئة التي غذته.

اليوم، صار النجاح يقاس بعدد المشاهدات، لا بجودة المحتوى. منصات التواصل الاجتماعي لم تعد مجرد فضاء للتعبير، بل تحولت إلى حلبة صراع، حيث ينجو الأقوى صوتا، لا الأكثر إبداعا. وهكذا، أصبح من الطبيعي أن يحتل الصدارة أشخاص لا يملكون أي قيمة فنية، لكنهم يعرفون جيدا كيف يثيرون الجدل، وكيف يستفزون الرأي العام ليحصلوا على المزيد من التفاعل.

في أي بلد يحترم نفسه، توجد قوانين واضحة تحمي الذوق العام، وتفرض حدودا أخلاقية على ما يمكن تقديمه تحت مسمى “الفن” أو “التأثير”.

في المغرب، يبدو أن الأمر مختلف. لا أحد يتدخل حينما يتحول الفن إلى منصة للابتذال، ولا أحد يضع حدا لموجة الإسفاف التي تضرب الساحة الفنية والإعلامية..

هذا القبول الضمني للإسفاف هو ما يجعل الظاهرة تستمر، بل وتنتشر أكثر، فحين يدرك هؤلاء “المؤثرون” أن جرعة إضافية من البذاءة ستمنحهم المزيد من الأضواء، فإنهم لن يترددوا في الذهاب أبعد، طالما أن لا شيء يوقفهم، وطالما أن لا أخلاق ولا قيم لهم..

من المحزن أن يصبح الشتم والابتذال أسرع طريق للشهرة، بينما يظل الفن الحقيقي مهمشا.

للأسف، في زمن “الترند” لم يعد المهم أن تكون موهوبا، بل أن تكون قادرا على إثارة الجدل، حتى لو كان ذلك على حساب القيم والأخلاق.

لم يعد المشاهد يهتم بالجودة، بل يبحث فقط عن ما يثير صدمته، ويكسر حدود المقبول والمرفوض. وهكذا، نجد أنفسنا أمام ظاهرة غريبة: كلما زاد سقوطك، زادت شهرتك.

الحل ليس فقط في تحميل المسؤولية للسلطات أو الإعلام، بل في مسؤولية الجمهور نفسه، وما يتطلبه ذلك من وعي جماعي..

طالما أن الناس هم من يمنحون الشهرة لهؤلاء، فإنهم سيستمرون في تقديم المزيد من الإسفاف.

المقاطعة الواعية، وعدم منح التفاعل المجاني لهذا النوع من “المحتوى” قد يكون الخطوة الأولى نحو تصحيح المسار.

لأن الحقيقة البسيطة التي يجب أن ندركها هي: ما نشاهده ونمنحه اهتمامنا، هو ما سيستمر. فإما أن نرتقي، أو أن نواصل الغرق في مستنقع التفاهة.

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي