منذ انطلاق أول نقاش علمي حول الصحون الطائرة، وغيرها من الأجسام الطائرة غير المعروفة، في أربعينيات القرن العشرين، اعتاد الناس على متابعة مستجدات الفضاء ضمن “الأخبار المنوعة“.. أي الأخبار ذات الأهمية الثانوية ضمن اهتمامات عموم القراء والمتابِعين. لكن ما حدث السبت 25 ديسمبر الماضي، من شأنه ‒ربما‒ أن يقلب جذريا رؤيتنا للكون ولمصير البشرية مستقبلا؛ ويجعل أخبار الفضاء تتربع صدارة الأنباء في وسائل الإعلام عبر العالم. فبالتاريخ المذكور، تم تحقيق حلم راود أجيال من العلماء منذ خمسينيات القرن الماضي، بإرسال أقوى تلسكوب والأكثر تعقيدا وتكلفة في التاريخ إلى الفضاء.
وقبل ذلك، صادق مجلس الشيوخ الأمريكي منتصف ديسمبر الماضي، لأول مرة، على إنشاء وكالة متخصصة في العمل الاستخباراتي والعلمي الموجه لدراسة الأجسام الطائرة المجهولة. ويكشف هذا القرار غير المسبوق مدى الجدية، التي تأخذ بها الإدارة الأمريكية هذا الموضوع الغامض والمثير لجدل قديم، لا ينفك يتجدد في كل مرة. كما شكلت وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” لجنة دينية، مكونة من قسيس وحاخام وإمام من بين 24 عالم دين، مهمتهم تحضير البشرية للاحتمال المتزايد للتواصل مع الكائنات الفضائية. وكذا تقييم طريقة تفاعل الأديان مع وجود حياة خارج كوكب الأرض، ودراسة تأثير هذا الاكتشاف المفترض على مفهوم الله والخلق لدى البشر.
إن هذه التطورات المتسارعة، إلى جانب مؤشرات أخرى كثيرة، تبعث على الاعتقاد كما لو أن العالم يشهد مقدمات اعتراف قريب بأننا لسنا وحدنا في هذا الكون…
لقد عرف احتمال وجود كائنات فضائية تحولا تاريخيا في يونيو 2021، عندما اعترفت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، لأول مرة وفي تقرير رسمي، برصد أجسام غريبة تجوب الفضاء بواسطة تكنولوجيا متقدمة، لم تصل إليها البشرية بعد، ولا أحد يعرف حقيقتها حتى الآن. ومنذ صدور ذلك التقرير/السابقة، يأخذ الجميع على محمل الجد فرضية وجود كائنات فضائية، قد تتواصل مع كوكب الأرض في أية لحظة. أو لعها قد تكون زارته في الماضي من دون أن يشعر بها البشر.
أغلى تلسكوب في التاريخ
هكذا يتجه تلسكوب “جيمس ويب” حاليا نحو الفضاء على متن صاروخ من طراز “أريان 5″، للاستقرار في مداره النهائي على بعد 1,5 مليون كيلومتر من الأرض، في حدث تاريخي ظل علماء الفلك ينتظرونه منذ عقود. وهذا التلسكوب الفضائي هو أكبر وأقوى تلسكوب فضائي تم بناؤه على الإطلاق، وقد كلف تطويره ما يقرب من 10 مليار دولار على مدى سنوات طويلة.
والهدف المنشود من أداة المراقبة الفضائية هذه، التي تعتبر الأكثر دقّة في التاريخ، هو إلقاء الضوء على سؤالين يشغلان البشرية منذ الأزل، وهما: من أين أتينا؟ وهل نحن وحدنا في هذا الكون؟ إذ يأمل العلماء أن يسبر أغوار الكون بتقنيات هي الأعلى دقة على الإطلاق، وفي مقدمتها ما يُعرف بـ “الفجر الكوني”، حيث بدأت أولى المجرات تضيء الكون قبل مليار سنة. وهو ما سيتيح التعمق في فهم كيفية تشكل النجوم والمجرات، ومراقبة الكواكب خارج المنظومة الشمسية، التي ما انفك العلماء يكتشفون المزيد منها. وذلك على أمل العثور على كواكب أخرى مواتية للحياة.
لكن عملية إطلاق هذا التلسكوب محفوفة بالصعوبات والتعقيدات، ما يفسر تأجيل إطلاق الصاروخ الذي يحمله، لثلاث مرات خلال العام الماضي. ولذلك اتخذت وكالة “ناسا” تدابير مشددة لتفادي أي أضرار قد تلحق به. فبعد أن يوضع التلسكوب في مكانه المحدد، في أعقاب رحلة تمتد شهرا لمسافة 1,5 مليون كيلومتر من الأرض، سيحظى بحماية من الإشعاع الشمسي، بفضل درع حرارية مكونة من خمسة أشرعة مرنة، تبدد الحرارة وتخفض درجتها (وهي 80 درجة مئوية) إلى 233 درجة مئوية تحت الصفر عند جهة التلسكوب.
ومن المتوقع أن تستمر مهمة التلسكوب الجديد لمدة خمس إلى 10 سنوات، وتتوقع وكالة ناسا أن يرسل أول صورة علمية له الصيف القادم. لكن لا بد من الانتظار أسابيع عدة قبل ذلك، لمعرفة ما إذا كان التلسكوب قابلا للتشغيل، حيث من المزمع دخوله الخدمة في يونيو 2022، ليكشف لنا نجوما وكواكب جديدة، فضلا عن رؤية أكثر تفصيلا لم نعرفها من قبل عن نظامنا الشمسي، خلال السنوات العشر المقبلة، ويفتح عينا جديدة على الكون.
أقوى مئة مرة من “هابل”!
في عام 1990 تم إطلاق مرصد “هابل” الفضائي، الذي التقط أكثر من 1,5 مليون صورة، وساعد في كشف أن عمر الكون 13,8 مليار سنة ووسع فهم البشرية لكيفية تشكل الكواكب. وقد أبهر “هابل” العالم في عام 2004 عندما أظهر صورة غير عادية للفضاء السحيق، تُظهر المجرات مثلما كانت عليها قبل ما يناهز 13 مليار سنة، عند تشكل النجوم الأولى أو حدوث ما يعرف باسم “الفجر الكوني”. واكتشف العلماء بفضله وجود ثقب أسود في قلب كل المجرّات، وبخار ماء حول الكواكب الخارجية، وغيرها من الحقائق العلمية التي بتنا نعرفها.
وسيكون “جيمس ويب” على منوال التلسكوب “هابل” الذي أحدث ثورة في تقنيات مراقبة الفضاء. فقد وضعت وكالة الفضاء الأميركية التصاميم الأولى للتلسكوب الجديد بعيد إطلاق “هابل” سنة 1990، وشُرع في تشييده في 2004 بالتعاون مع وكالتَيْ الفضاء الأوروبية والكندية. ويتميز هذا الجهاز على أكثر من صعيد. فمرآته البالغ طول باعها 6,5 أمتار تجعله أكثر قدرة على الاستشعار بسبع مرات، ما يتيح له مثلا رصد الأثر الحراري لنحلة على القمر.
فالتلسكوب الجديد المسمى بـ”جيمس ويب” أكبر من “هابل” بمئة مرة، وهو بحجم ملعب للتنس وتزيد قوته على تلسكوب “هابل” الفضائي بمئة مرة. وكان تصميم “هابل” قد تم بشكل أساس لالتقاط الضوء المرئي، الذي يمثل شريحة صغيرة فقط من طيف الضوء المنبعث من النجوم والأجرام السماوية الأخرى. وللتذكير، فإن العين البشرية يمكنها أن ترى أطوال موجية من الضوء تتراوح من 380 إلى 700 نانومتر، بينما يرى “هابل” مدى يتراوح بين 90 إلى 2500 نانومتر، أما تلسكوب “جيمس ويب” فيمكنه أن يرى نطاقا أوسع بكثير من أطوال موجات الضوء، يصل بين 600 إلى 28500 نانومتر. ويتميز “جيمس ويب” أيضا بتقنيته للمراقبة، فتلسكوب “هابل” يجري عمليات المراقبة في ميادين يكون فيها الضوء مرئيا. أما “جيمس ويب”، فهو يسبر موجات غير مرئية للعين المجردة، من أشعة تحت حمراء متوسطة المدى وقريبة، وهو شعاع يصدر عن كل جسم فلكي أو نجم أو إنسان أو حتى مجرد زهرة. وتخترق الأشعة تحت الحمراء سحب الغاز والغبار، ما سيسمح لـ”ويب” باكتشاف نجوم وكواكب جديدة.
ترقب وقلق من القادم
ولأن تلسكوب جيمس ويب الخارق هذا يعد باكتشافات ثورية، من شأنها أن تغير فهمنا للكون، فإن النقاش عاد مجددا للعالم حول وجود كائنات وحضارات أخرى في الفضاء. لكن النقاش هذه المرة يأخذ طابعا جديا بانخراط العلماء، الذين كانوا في السابق يرفضون أي حديث حول هذا الموضوع. وسبق أن نشرت المخابرات الأمريكية في 25 يونيو2021، تقريرا قدم تفسيرات لحوالي 144 مقطع فيديو، التقطها طيارون من سلاح البحرية الأمريكي، أثناء اعتراضهم تحليق أجسام فضائية مجهولة، خلال الفترة ما بين نوفمبر 2004 ويناير 2015. واعتبرت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) بصددها، في تقرير، أنه “لا توجد لدى محللي وزارة الدفاع والمخابرات، معلومات كافية لتحديد طبيعة ما رصده طيارو البحرية، والتأكد مما إذا كان الأمر يتعلق بتكنولوجيا متطورة من كوكب الأرض، أو أجساما من الغلاف الجوي، أو من خارج الأرض”. ورغم ذلك، فقد عُدّ هذا التقرير أول اعتراف رسمي من الحكومة الأمريكية، برؤية “الأجسام الطائرة المجهولة”، بعد عقود من التكهن والتجاذب بين من يصدقون بوجودها، والسخرية من جانب آخرين يرفضون كلية فكرة زيارة طائرة كائنات فضائية للأرض.
غير أن رئيس وكالة ناسا الفضائية الأمريكية بيل نيلسون، علق بأنه لا يعتقد أن البشر هم الوحيدون في هذا الكون. ويروي نيلسون البالغ من العمر 79 عاما والذي سبق أن سافر على متن مكوك الفضاء الأمريكي الشهير “كولومبيا”، في رحلته إلى الفضاء عام 1986، بأنه تحدث مع الطيارين الأمريكيين الذين سبق أن شاهدوا الأجسام الطائرة المجهولة، وخرج بقناعة مفادها أنه “من الواضح أن هناك شيئا ما”. مضيفا في مقابلة مع شبكة (سي إن إن): “إذا كنت تسألني هل نحن وحدنا في هذا الكون، فإنني أنا شخصيا لا أعتقد أننا وحدنا”.
هذا عن الجانب الأمريكي والغربي عموما. أما القوى الكبرى الأخرى، فيبدو أنها تفضل خوض البحث الفضائي (خصوصا عن كائنات فضائية) بسرية تامة، خصوصا في ظل شبه اعتراف صيني وروسي رسمي بوجود تلك الكائنات بالفعل. وفي ظل هذا الغموض، يترقب الرأي العام العالمي ومعه نخبة علماء الفضاء بالكثير من الفضول المشبع بالتوجس الصيف الماضي. فقد يبعث تلسكوب “جيمس ويب” ابتداء من الصيف القادم أدلة جديدة إلى الأرض، قد تعيد النظر في معطيات تعتبر من المسلمات في الوقت الراهن. وقد تكون بينها أدلة على أننا لسنا الوحيدين في الكون…
هل يحل تلسكوب “جيمس ويب” مفارقة فيرمي؟
في مجرتنا المعروفة باسم درب التبانة التي يُفترض أنها مليئة بالكائنات الذكية، لم نعثر بعدُ حتى الآن على أثر لوجودها. لماذا لم نر أيا منها؟ وأين توجد؟ وضعية طرحها عالم الفيزياء الشهير إنريكو فيرميFermi ، منذ خمسينيات القرن الماضي، وتُعرَف بـ “مفارقة فيرمي”، وظلت من دون جواب حتى اليوم. فما مفارقة فيرمي؟ وما أهم الحلول المقترحة لحلها؟
تضم مجرتنا نحو 300 مليار نجم، كثير منها أقدم من الشمس بمليارات السنين. وتشير التقديرات العلمية المبنية على الاحتمالات الرياضية، إلى أن نسبة كبيرة من هذه النجوم تستضيف كواكب صالحة لظهور الحياة عليها. ومن ثم فلا بد أن يكون قد ظهر فيها عدد من الحضارات الذكية، حتى لو كانت الحياة قد تطورت على نسبة ضئيلة جدا من هذه الكواكب. وبفضل التقنيات القائمة على الصواريخ، التي طورها البشر للسفر إلى الفضاء، يُقَدّر العلماء بأن استيطان كامل المجرة ونشر حضارتنا عليها، سوف يستغرق بين 5 ملايين و50 مليون سنة.
والاحتمالات الرياضية لبلوغ حضارة ما المستوى الذي بلغه البشر، تتيح منطقيا حدوث مثل هذا الأمر مرات عدة على امتداد 10 مليارات سنة الأخيرة في مجرتنا. لكن أين الدليل على وجود هذه الحضارات؟ هذا التناقض قد أطلق عليه اسم “مفارقة فيرمي” (Fermi Paradox).
ولحلها يطرح العلماء عددا من الحلول الممكنة. أولها، أننا ما زلنا لم نمتلك بعد الوسائل المناسبة للنظر بعيدا في الكون بما يكفي، للعثور على حياة أخرى. فاكتشاف الكواكب الأولى خارج نظامنا الشمسي، لم يصبح ممكنا إلا في تسعينيات القرن الماضي.
ومع ذلك ما زلنا لم نعثر حتى اليوم على عدد كبير من الكواكب التي تشبه الأرض تماما، وتدور حول نجوم مثل شمسنا. كما أن السفر بين النجوم ما يزال بعيد المنال، فأقرب نظام نجمي للأرض على سبيل المثال (ألفا سنتوري)، يبعد مسافة 4 سنوات ضوئية تقريبا، وقد يستغرق السفر إليه بالتكنولوجيات المتاحة اليوم عشرات الآلاف من السنين.
ومن التفسيرات الممكنة الأخرى أيضا، أن تكون الكائنات الذكية قد زارت الأرض منذ مدة طويلة من دون ترك أي أثر. أو أن تكون الحياة نادرة جدا في مجرتنا، إلى درجة أن فرص وجود حضارتين ذكيتين قريبتين من بعضهما نسبيا ضئيلة جدا.
لكن الفرضية التي تبدو أكثر كآبة لبعض العلماء، هي أن نكون بالفعل وحدنا في الكون. فاحتمال تطور شكل من أشكال الحياة، مثل تلك الموجودة على الأرض، قد يكون ببساطة ضعيفا جدا. بحيث يكون كوكبنا هو المكان الوحيد في الكون، الذي حدث فيه هذا التطور.
بيد أن معظم العلماء يعتقدون، بأن السيناريو الأخير غير مرجح. ويقدمون في المقابل تفسيرا آخر أكثر احتمالا، وهو وقوع أحداث كارثية تعرف باسم “المرشح العظيم” (أو الفلتر)، تتسبب في القضاء على الحياة الذكية في عوالم صالحة للسكن، قبل أن تتاح لها الفرصة لتوسيع مدى وصولها إلى الكون. ومن هذه الأحداث المدمرة، يذكر العلماء التوهجات النجمية القوية، والتغير المناخي، والاصطدام بالكويكبات السابحة في الفضاء. فضلا عن احتمال قيام تلك الحضارات ‒بالخطأ أو عن قصد‒ بما يسبب تدميرها ذاتيا.
وبحسب العلماء، فما دام لا يوجد حتى الآن أي دليل قاطع على صحة هذه الحلول والفرضيات، يتعين على البشر تحسين وسائلهم لرصد الكون. وباستخدام التلسكوبات الأكثر تقدما، سيتمكن العلماء من فحص التركيبات الكيميائية للغلاف الجوي للكواكب الصخرية المكتشفة في المناطق الصالحة للسكن، والمعروفة تقليديا بأنها المنطقة التي يمكن أن توجد فيها المياه على سطح الكواكب. ومع ذلك، فإن صلاحيتها للسكن لا تتعلق فقط بالمياه، بل تستوجب توفر عوامل أخرى، مثل النشاط المعتدل للنجم، وتركيبة الغلاف الجوي الملائمة للحياة على هذه الكواكب.
من أجل ذلك، سوف يتم إطلاق المزيد من المركبات الفضائية، التي ستبحث عن الكواكب الخارجية في السنوات القليلة المقبلة. وفي إطار هذا البرنامج، سيقوم تلسكوب “جيمس ويب” الفضائي، الذي أطلقته “ناسا” في 25 من الشهر الماضي، بفحص الكواكب الخارجية بحثا عن التركيب الكيميائي لغلافها الجوي.
العالم يحبس أنفاسه بانتظار الصيف القادم.. بعد إطلاق أقوى تلسكوب فضائي في التاريخ

تعليقات ( 0 )