ثلث أصناف النبات والحيوانات البرية مهدد بالانقراض
بينها 35 نوعا من النباتات، و98 نوعا من الطيور، و35 نوعا من الثدييات!
كيف يمكن لساحة “جامع الفنا” بمراكش أن تبدو من دون “حلْقات” مروضي الأفاعي ومُرقِّصي القرود؟ لقد ترسخت الصورة النمطية لصناع الفرجة أولئك على مدى عقود، في مخيلة الناس كما في بطاقات البريد، باعتبارها جزءا أصيلا من الفولكلور المحلي، إلى درجة أن ذكر الساحة الأشهر في المغرب وفي العالم وتصوُّرها، لا يستقيمان في الأذهان من دون حيواناتها المدربة ومروِّضيها.
لكن ما تخفيه بطاقات البريد الصقيلة وصور ذكريات السياح الباسمة، هو تقارير وإحصائيات تدق جميعها ناقوس الخطر منذ سنوات، للتحذير من انقراض أصناف بأكملها من النباتات والحيوانات في المغرب.
وعلى هذا الأساس، يضع هذا التحقيق تحت مجهر البحث والسؤال مسار تلك الحيوانات المعذبة من البرية إلى الأسر. ليكشف من خلالها عن واقع أكبر يتمثل في خسارة المغرب وبوتيرة متسارعة لتنوعه البيولوجي، لأسباب متعددة، يأتي في مقدمتها الضغط الكبير الممارس على الأنظمة الإيكولوجية، والمتمثل بالأساس في الأنشطة البشرية، من رعي، وسوء استغلال للغابات وأصناف النباتات بطريقة غير عقلانية، وصيد جائر وتهريب، وزحف للبناء.
يحدث ذلك رغم أنف القوانين الوطنية والاتفاقيات الدولية، التي يفترض أنها توفر لهذا التنوع ما يكفي من الحماية لضمان استدامته.
ألوف الزائرين للمدينة الحمراء من السياح المغاربة والأجانب وعلى مدى أجيال عديدة، يحتفظون في ألبوماتهم بصور شخصية يظهرون فيها وهم يحملون بسرور في العنق أو على الرأس قردا خائفا، أو أفعى تتدلى باحثة عن فرصة للهرب. وكثيرون منهم نشروها على الشبكة الزرقاء بغرض التباهي، أو للسخرية من البلد الذي ما زالت تمارس في ساحاته تلك النشاطات “المنتمية للقرون الوسطى”. وآخرون من مشاهير نجوم السينما والتلفزيون العالميين، نالوا من النقد الجارح الشيء الكثير لمجرد التقاطهم صورة مع تلك الحيوانات المعذبة.
لكن لا أحد منهم عبأ بحال تلك الحيوانات ولو للحظة، ولا أثار فضوله كيف يمكن أن تعيش في قلب المدينة حيوانات جلبت في الأصل من البرية.. ولا تساءلوا كيف يجري التحكم فيها لكي تستسلم لنزوات السياح، رغم أنها لم تولد بغريزة الخضوع للإنسان..
مأساة “الحنش بوسكة”
ساحة جامع الفنا عصرا. ينفخ مروض الأفاعي بملل ظاهر في مزمار عتيق، متمايلا بلطف ذات اليمين وذات الشمال. فيتمايل على إيقاعه حنش الكوبرا أمامه نافخا عنقه. يتحلق حول المشهد جمهور قليل لا يخلو من وجوه أوروبية لا تخطئها العين. فتتابع العيون بإعجاب واندهاش قدرة الرجل على تطويع الزاحف السام المعروف مغربيا باسم الحنش بوفطيرة (أو “الحنش بوسكة”). بينما في الواقع لا يسمع الحيوان المسكين شيئا من نغم المزمار، ولا من الأصوات المنتشرة من حوله، لأنه بكل بساطة أصم. فتمايله هو لمجرد الاقتداء بحركات صاحبه.
ليس بوسع أي كان أن يكون مروضا للزواحف سامة طبعا، فهذه حرفة خطرة لها أصولها وأصحابها المخلصون لها. فمروضو ساحة جامع الفنا مثلا، ينتسبون في الأغلب إلى الطائفة العيساوية أو من “أولاد بويا رحال”، المعروفين بربط علاقة غريبة وخاصة مع الزواحف السامة. وفي مقابل الغموض الشديد الذي يلف علاقاتهم بالثعابين، ثمة على الأقل يقين واحد: إنهم يمارسون ولعهم الشديد بها في شكل طقوس استهواء سحرية، سواء تعلق الأمر بأفعى الكوبرا (الناشر)، أو بالأفعى ذات القرنين، أو بغيرها من الأفاعي الأخرى القاتلة، مجسدين أثناء ذلك القوة والهدوء.
يزعم البعض بأن عيساوة يتمكنون من تجنب التعرض لعضات تلك المخلوقات المميتة، باللجوء إلى أعمال السحر التي يتقنون أصولها وطقوسها. بينما يزعم آخرون أن بركات شيخهم الكامل (سيدي امحمد بن عيسى دفين مدينة مكناس) هي التي توفر لهم المناعة ضد سموم الثعابين والعقارب. غير أن لبعض علماء البيئة الصحراوية تفسيرا آخر صادما وأكثر عقلانية. فبحسب المصور الفرنسي ميشيل أيميريش، وهو عضو في “مجموعة البحث المهتمة بالبيئة الصحراوية في المغرب”، فإن ثعبان الكوبرا لا يصبح طيعا ومسالما بين أيدي المروضين إلا بعد أن يفقد سلاح دفاعه الوحيد. ويكشف هذا الناشط المدافع عن الحيوانات المهددة بالانقراض والعالِم الولوع بالطبيعة البرية المغربية، بأن «صيادي الثعابين يعمدون في الواقع إلى قلع أنياب أفاعي الكوبرا بمجرد صيدها، وهو ما ينتج عنه إصابتها بتقيحات والتهابات فموية، تؤدي بها غالبا إلى وفاة مبكرة». وينتج عن ذلك طبعا أن زواحف الاستعراض في جامع الفنا تعاني موتا بطيئا، فظيعا وصامتا، بسبب الإجهاد والألم والجوع خلال الفترة التي تقضيها في الأسر لتسلية السياح.
عذاب قرد “المكاك”
في “الساحة” تبدو القرود طيعة لأوامر مروضيها، معتادة على الاحتكاك بالسياح الذين يلتقطون الصور معها في مقابل مبالغ صغيرة من المال يحصلون عليها أصحابها. وعدا ذلك، لا أحد يهتم لمنظر السلاسل التي تطوق رقابها رغم أنها بارزة للعيان. والأدهى والأمَرّ أنها تتعرض للضرب المبرح، بل ويتم تخديرها حتى لكي تكون طيعة أليفة وتُسلي السياح. وبحسب تقارير جمعيات مهتمة بحماية الحيوانات، فإنه عندما لا تكون القرود في العمل، يغلق عليها أصحابها داخل أقفاص خشبية ضيقة مصبوغة بالأخضر. وطبعا يجذب منظر القرود بعض الفضوليين وأكثرهم من زوار الساحة الأطفال، فيضربون على الأقفاص لتهييج القرود المسكينة. ويضحك ذلك آباء أولئك الأطفال المشاغبين ويسايرهم المروضون، الذين لا يترددون بدورهم في الضرب على الأقفاص من وقت لآخر، حتى يمنعوا القرود من التراخي أو النوم، والبقاء متأهبة ل”العمل” في أي وقت كثر الزوار. ومن أجل تسلية السياح، ينكل المروضون بالقرود حتى يبدو مظهرها مضحكا. فهذا قرد ألبس ثيابا نسائية بيضاء بحيث يثير منظره سخرية كل من رآه. وآخر يقوم بشقلبات مضحكة كلما جر صاحبه بيده السلسلة التي تقيد عنقه، مقلدا شتى الصور التي يأمره بها.
تختصر عالمة الحيوان الشهيرة كيري كيرنس مآسي قرود الساحة، إذ تحكي قائلة: «عندما زرت ساحة جامع الفنا في 2013، شاهدت أربع مجموعات من مروضي القرود. كل مجموعة كانت تحتفظ بعدد منها خارجا بينما تحبس أخرى داخل صناديق صغيرة. وكان أغلب القرود قد ألبست ثيابا بألوان صارخة ووضعت لها حفاظات، وقد تراوحت بين قرود رضيعة وإناث بالغة. وكانت تجر بواسطة سلاسل تحيط بأعناقها. لقد تم انتزاع هذه الحيوانات المسكينة من غابتها ومن أُسَرها، لتسجن في صناديق ضيقة عندما لا يتم استعراضها لتسلية السياح، كما يتم تخدير بعضها بعد أن قلعت أسنانها ومخالبها.» والغرض من نزع أسنان القرود ومخالبها هو حرمانها من سلاحها الطبيعي الوحيد، من أجل منعها من الاعتداء على زوار الساحة. لكن ذلك ينعكس سلبا على صحة القرود وعلى توازنها العام.
إن هذا الصنف من القرود يعرف علميا باسم المكاك البربري (زعطوط باللهجة المغربية)، يتميز بكونه الوحيد من بين الرئيسات (أعلى رتبة لدى الحيوانات الثديية) الذي يعيش في شمال الصحراء الإفريقية الكبرى. لكن، ولظروف كثيرة متداخلة انكمش نطاق انتشار المكاك البربري كثيرا في الوقت الراهن، فصار وجوده يقتصر على بعض الغابات المتناثرة بين المغرب والجزائر، وكذا في صخرة جبل طارق.
بين القانون والواقع
من خلال الاطلاع على ملاحق الاتفاقية، نلاحظ أن بعض أبرز الحيوانات البرية المدرجة ضمن الملحق الأول (أي المهددة بالانقراض والمفروض أنها مشمولة بالحماية في المغرب)، هي الآتي ذكرها: الحرباء، والسلاحف البرية والمائية، والسنجاب بأنواعه، والقرد البربري (المكاك)، وقرد البابوان (مستورد من إفريقيا)، والطيور الجارحة النهارية والليلية (البوم بأنواعه، والصقر والنسر بأنواعه)، والثعابين بأنواعها (ومنها أفعى الكوبرا “بوسكة”، و”الأفعى الصادمة”)، والورل (زاحف صحراوي يعرف في المغرب باسم “الضب”)، والقنفذ، والظربان، الخ.
لكن خارج إطار القانون، المعروف أن هذه الأصناف المهددة بالانقراض تباع حية وميتة، وبكل حرية في دكاكين العطارة بكل المدن والقرى المغربية. أو يقع الاعتداء عليها في بيئتها الطبيعية دون رقابة، من خلال تعذيبها للتسلية أو قتلها دون سبب أو مبرر.
ويرى ماتيو تيفني مدير المنظمة غير الحكومية “مبادرة الجزر المتوسطية الصغيرة “، من جانبه، بأن “غياب الاهتمام السياسي بحماية الأنواع يعتبر مشكلا عالميا، حيث إن الحجج الاقتصادية تطغى على الحجج البيئية”. ويضيف بأنه في حالة المغرب، “إذا ركزنا فقط على منطقة الصويرة، يمكننا القول إن السلطات لا تعلم بأنها تحتوي على تراث ثقافي وبيئي، بحيث هناك مشروع إعمار في خليجها. وهذا يقلقنا لأن الأمر يتعلق بمنطقة رطبة تحط بها صقور إليونور (المهاجرة) لاستعادة قواها”. وهذا المشروع من شأنه أن يضرب ما يعتبره تيفني نجاح منظمته غير الحكومية، التي تعمل على حماية صقر إليونور. ويعشش هذا الطائر الجارح صيفا في المغرب ‒للتذكير‒ ليهاجر شتاء إلى مدغشقر. وقد ارتفع عدده من 60 زوج في عام 1980 إلى 1500 زوج في 2019.
ويغذي الصيد غير القانوني التجارة غير المشروعة بالأنواع النادرة في السوق الدولية للحيوانات الأليفة. وهو ما نتج عنه أن طائر الحسون المحبوب لغنائه العذب قد أصبح نوعا مهددا بالانقراض في المغرب. ويتحسر رضوان الوافي رئيس الاتحاد المغربي لعلم الطيور، لكون “الصيد الجائر أصبح مصدر رزق للبعض في المغرب، حيث يتم القبض على طائر الحسون لكي يباع بشكل غير قانوني للجزائريين”.
كما يعد قرد المكاك البربري بهذا الصدد ضحية أخرى، حيث أصبح هذا النوع المتوطن من القرود مدرجا على القائمة الحمراء للأنواع المهددة بالانقراض. وفي المغرب يقوم الصيادون غير الشرعيين باصطياده لبيعه للسياح. وتقول سيان واترز، من منظمة الحفاظ على قرد المكاك البربري الدولية، بأن المغرب كان يحتضن 17 ألف قرد مكاك في الأطلس المتوسط في 1975. أما اليوم فيوجد بالكاد بضع مئات منها فقط”.
تعليقات ( 0 )