لوبي الصحة.. يربح المليارات ويتدخل في ماكينة التشريع

15 مختبرا تحتكر الأدوية وعلاقات مشبوهة مع الأطباء

 
في سنة 2014، وبينما كانت وزارة الصحة في عهد الحسين الوردي، تخوض معارك على جبهات مختلفة لتخفيض أسعار الأدوية وضبط فوضى القطاع الخاص، تعرض الوزير لهجوم داخل مجلس النواب مباشرة بعد تقديمه مشروع قانون لحل مجلسي الصيادلة بالشمال والجنوب.
فمباشرة بعد مغادرة القاعة التي احتضنت تقديم مشروع القانون، تمت محاصرة الوزير من طرف ثلاثة صيادلة، لينطلق السب والشتم والتدافع الذي كاد يتحول إلى لكم وضرب لولا تدخل بعض البرلمانيين.
توجه الوزير بسرعة إلى مرآب مجلس النواب حيث توجد سيارته، وأجرى مكالمة مع وزير العدل آنذاك مصطفى الرميد الذي أصدر تعليماته إلى النيابة، ليتم فتح تحقيق مع المعنيين الذين تم توقيفهم واقتيادهم نحو ولاية الأمن.
مباشرة بعد هذا الحادث، لم يعد وزير الصحة الأسبق يتحرك بكامل حريته. فقد تم تخصيص فرقة أمنية لحراسته في مختلف تنقلاته، التي أضحت تخضع لتقييدات كبيرة بعد واقعة الاعتداء التي كشفت خطورة لوبيات تتحكم في القطاع.
المصحات و”مول الشكارة”
حروب لوبيات قطاع الصحة غالبا ما تستعر في لحظات مناقشة مشاريع القوانين التي تهدد مصالح الكثيرين، ومن ذلك ما وقع عندما تم فتح أبواب الاستثمار في المصحات أمام أصحاب رؤوس الأموال من غير الأطباء.
وقد صادق البرلمان على مشروع قانون مزاولة مهنة الطب بعد اعتماده من طرف مجلس الحكومة وبعد أن خلق جدلا كبيرا في الأوساط الصحية بالمملكة، بسبب تضمنه بنودا تتعلق بفتح رأسمال المصحات الخاصة أمام المستثمرين من غير الأطباء.
وقد نص المشروع على أنه “يمكن حيازة المصحة من قبل شخص ذاتي شريطة أن يكون طبيبة أو طبيبا أو من قبل مجموعة من الأطباء أو شركة تجارية أو شخص معنوي خاضع للقانون الخاص لا يهدف إلى الحصول على الربح”.
وقد دافع الوزير الوردي آنذاك عن هذا القانون غير ما مرة، وذلك بتأكيده أن الغرض منه هو الرفع من جودة الخدمة المقدمة في المصحات، وخدمة مصلحة المواطنين وحقهم في الصحة، حيث شدد في تصريحات صحفية على كون فتح الاستثمار في المصحات في وجه غير الأطباء سيخضع لضوابط وصفها بالصارمة.
وعلى الرغم من الجدل الكبير الذي رافق مصادقة القانون، فإن تنفيذه لم يكن بحجم ذلك الجدل. بل إن عددا من المستثمرين الأجانب، ورغم الرحلات المكوكية التي قادتهم إلى المغرب، فإنهم لم يجازفوا بالاستثمار في قطاع يعيش على وقع ممارسات تحد كن تطوره.
نتحدث مثلا عن استمرار مظاهر التعامل ب”النوار” وتحول المريض إلى بضاعة يتم الاتجار فيها. ولعل فضائح العمليات القيصرية، وأداء الرشاوى لعدد من الأطباء في القطاع الخاص كمقابل لما يعتبرونه فارقا بين ما تؤديه هيئات التأمين ومستحقاتهم، تمثل جانبا من العوامل التي تساهم في إبطاء الاستثمار الحقيقي في هذا القطاع.
الأدوية..عش الدبابير
لم يكن القرار الذي اتخذ منذ عهد حكومة بنكيران بتخفيض أسعار مجموعة من الأدوية إلا الشجرة التي تخفي من ورائها غابة لوبي يعتبر، في رأي العديد من الخبراء على الصعيد الدولي، أخطر من لوبي الأدوية. وقد كانت جائحة فيروس “كورونا” دليلا آخر حول كيف يمكن أن يكون للجوائح أثرياء أيضا.
على الرغم من الجهود التي تبذلها وزارة الصحة من أجل ضبط ما يجري في هذا القطاع، فإن الواضح هو أن تراكم سنوات من الممارسات التي خلقت مصالح قارة لعدد من الأطراف، جعلت من هذا القطاع يتغول بشكل لافت.
مجلس المنافسة أجرى العديدة من الدراسات التي كشفت عن وجود اختلالات عميقة. ومن أبرز هذه الدراسات، تلك التي نشرت سنة 2020 والتي فضحت الاحتكار الموجود في هذه السوق، حيث يتحكم فيها 15 مختبرا بنسبة 70 في المائة. بل إن بعض الفئات الدوائية تبقى جد ممركزة، مع وجود احتكارات ثنائية أو احتكارات قلة تحتل وضعية شبه هيمنة.
وأشار رأي مجلس المنافسة إلى أن سوق الدواء بالمغرب تتميز بمنافسة مطبوعة بسياسة دوائية وطنية مجزأة وغير منسجمة، وبتدبير تهيمن عليه الوصاية الإدارية، والتنظيمية، والتقنية، والطبية، التي لا تترك سوى مجال ضيق لتطوير آليات السوق والمنافسة النزيهة والمشروعة.
في التفاصيل، نجد أن سوق الدواء مشكلة في غالبيتها من الأدوية الأصلية، مع معدل ضئيل للغاية لمكانة الأدوية الجنيسة التي لا تتجاوز نسبتها 40 في المائة، في حين إن المتوسط العالمي يناهز 60 في المائة.
كما أن هذه السوق ضيقة بمعدل استهلاك ضعيف للأدوية لا يتجاوز في المتوسط 450 درهما لكل نسمة سنويا، في حين إن هذا المعدل يبلغ 3000 درهم في أوروبا، مبرزا أن هذا ما يترجم العجز الكبير لولوج الساكنة المغربية للدواء، وهو العجز الذي يتفاقم مع المستوى المرتفع لمساهمة الأسر في نفقات الصحة، التي تناهز 48 في المائة، في الوقت الذي يبلغ فيه المتوسط العالمي 25 في المائة.
ومن بين الاختلالات التي تم رصدها في سوق الأدوية هناك ما يرتبط بالعلاقات بين الأطباء والمختبرات المطبوعة في بعض الحالات بتضارب المصالح، مشددا على أن هذا الأمر يساهم بدوره في المساس بالمنافسة الحرة في هذه السوق، ويؤثر عليها سلبا كذلك وجود نظام جبائي غير ملائم يضاعف من صعوبة ولوج المواطنين للأدوية.
الأطباء واختبار القوة
تتداخل المصالح في مجال الصحة، لتجعل منه أحد أكثر القطاعات الذي تتحكم فيه لوبيات بقدرة كبيرة على التوجيه والتأثير، حتى إن العديد من القوانين والقرارات لم تنجح إلى حد الآن في تحييد أدوار بعض الأطراف المتحكمة..نتحدث مثلا عن لوبي أطباء القطاع الخاص.
لا نحتاج إلى دليل للجزم بأن عددا من أطباء القطاع الخاص يمارسون سلوكات تقع تحت طائلة القانون الجنائي، وهذا باعتراف تقارير رسمية..من قبض “النوار” إلى المتاجرة في النساء الحوامل بإجراء عمليات قيصرية غير مبررة.
في سنة 2019، أشعل “كنوبس” غضب لوبي الأطباء بعدما كشف أن 6 ولادات من أصل 10 تتم عبر العملية القيصرية، ويصل معدل اللجوء إليها حوالي 61 في المائة وبسببه ارتفعت النفقات عشر مرات ما بين سنة 2010 وسنة 2017؛ وهو ما يمثل خسائر للصندوق تمثل 70 مليون درهم سنوياً.
وقد قرر الصندوق في أبريل 2019 أداء مستحقات كل عملية قيصرية غير مبررة طبيا على أساس تعريفة الولادة الطبيعية. وعزا الصندوق هذا القرار إلى ارتفاع معدل اللجوء إلى العمليات القيصرية بالمغرب بشكل غير طبيعي، كاشفا أنه في سنة 2017 بلغ عدد حالات الولادة التي سجلها الصندوق في صفوف المستفيدات من خدماته 30.583 حالة، من بينها 18.522 تمت عبر العملية القيصرية ما يمثل 61 في المائة.
وأشار إلى أن هذه النسبة كانت مستقرة في 35 في المائة سنة 2006 وانتقلت سنة 2009 إلى 43 في المائة مباشرة بعد مراجعة التعريفة الوطنية المرجعية لهذا العمل الطبي من 6000 إلى 8000 درهم، لتصل إلى 61 في المائة خلال سنة 2017.
لكن لم تمض على هذا القرار إلا ساعات قليلة، حتى انفجر الأطباء غضبا وتحرك اللوبي بشكل سريع من أجل سحبه، حيث انتهى لقاء ترأسه وزير الصحة الأسبق أناس الدكالي إلى الاستمرار بالعمل بالاتفاقيات الوطنية الحالية، ما يعني إلغاء ما جاء في مذكرة “كنوبس”.

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي