فتح اعتقال محمد مبديع، الوزير السابق، والقيادي في حزب الحركة الشعبية الباب أمام تساؤلات حول مصير التحقيقات والمحاكمات التي تسير ببطء السلحفاة لعدد من البرلمانيين والمسؤولين الكبار.
الأمر يتعلق ببرلمانيين حاليين، ومنتخبين كبار، ومسؤولين بمؤسسات عمومية لم يتم الكشف إلى الآن عن خلاصات التحقيق معهم من طرف الفرقة الوطنية، أو الحسم في محاكماتهم التي امتدت لسنوات بعد تورطهم وفق تقارير رسمية في استغلال مناصبهم الوظيفية أو الانتدابية للاغتناء غير المشروع، و تبديد الأموال العمومية.
البرلمان الحالي يضم عددا من الأسماء التي لها ملفات مفتوحة سواء لدى الفرقة الوطنية، أو لدى قضاة التحقيق المكلفين بجرائم الأموال، والذين صاروا كمن على رأسهم ريشة بعد أن تم إيداع مبديع بسجن عكاشة في تطور يخشى أن يكون مجرد ريح عابرة في مواجهة غول الفساد الذي يكلف البلاد حوالي 51 مليار درهم سنويا.
اللافت أن مبديع ينطبق عليه المثل المغربي الذي يقول “جبد على راسو النحل”.
انتخاب الرجل على رأس لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب عبد له طريقا سريعا للسجن، وكان كافيا لتأجيج الانتقادات التي وجهتها الجمعيات الحقوقية المهتمة بالمال العام لطريقة التعاطي مع ملفات الفساد المالي.
انتقادات اتخذت صيغة اتهامات ب”التراخي” و”التقصير”، رغم الفورة التي سجلت مباشرة بعد تعليمات سابقة دعت فيها النيابة العامة المسؤولين القضائيين إلى التعامل الصارم مع جرائم الرشوة، واختلاس وتبديد المال العام، والغدر، واستغلال النفوذ قبل أن ينخفض الإيقاع مجددا، وبشكل طرح علامات استفهام حول ما اذا كان الأمر مجرد “صافرة” لتنفيس طنجرة الضغط .
تحقيقات في الثلاجة
الانتقادات همت بالأساس وضع عدد من الملفات، والشكايات المرتبطة بجرائم الأموال، أو المتعلقة باختلالات في التسيير واستغلال النفوذ في “الثلاجة” لسنوات.
الجمعيات الحقوقية عبرت بصراحة عن “أسفها” لما تعرفه بعض ملفات الفساد و نهب المال العام المعروضة على القضاء من “بطء”،و”تماطل”، و من”أحكام مجانبة للصواب”.
جاء هذا بعد أن عمرت بعض الملفات التي شغلت الرأي العام العام، لدى قضاة التحقيق لأزيد من تسع سنوات دون أن يتم الحسم فيها، في حين أن ملفات أخرى لازالت معلقة، أو مجهولة المصير رغم كل الضجيج الذي رافقها والاتهامات الخطيرة التي سالت منها.
الانتقادات طالت أيضا اقتصار فتح باب المساءلة في وجه مدبري الشأن العام من المسؤولين والمنتخبين، دون فتح ملفات عدد من رجال السلطة من ولاة وعمال رغم أنهم يدبرون ميزانيات بالملايير، ويتحكمون في زر عدد من الرخص والقرارات والمشاريع .
اليوم و في ضل تفاقم الإجماع الحاصل حول وجود تطبيع سياسي مع الفساد المالي، والذي اتخذ أكثر صوره ابتذالا مع إعدام تجريم الاثراء غير المشروع، فإن اعتقال مبديع من شأنه أن يرمي بحجر صغير في المستنقع الراكد، وأن يبعث برسالة، ولو بتأثير محدود جدا.
الحكومة ورأس النعامة
اللافت أن الحكومة تبدو الرابح الأكبر من وضع ثقل هذه المهمة على عاتق النيابة العامة، هذا رغم أن تحريك الملفات المرتبطة بشبهات الفساد المالي سواء المرتبطة بالمؤسسات المنتخبة أو المؤسسات العمومية يجب أن يرتبط أساسا بوضع آليات واضحة تبين الجدول الزمني السنوي لعمليات المراقبة و الافتحاص التي تباشرها الجهات المختصة وعلى رأسها المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة لوزارة الداخلية .
معطى سيقطع في حال تفعليه مع الانتقائية ويجعل تلك المؤسسات بعيدة عن المزايدات السياسية، وهو أمر يتعين دعمه بالتفاعل السريع للجهاز القضائي مع الملفات ذات الطابع الجنائي، وخاصة عملية التحقيق في إطار ضمان قواعد المحاكمة العادلة وتقديم المتورطين إلى المحاكمات.
تقارير سوداء
هذا الواقع يحيل وبشكل مباشر على تقارير المفتشية العامة لوزارة الداخلية التي تصدر تبعا و تتضمن خروقات خطيرة تستوجب العزل لكن دون أن يتم تحريك المسطرة القضائية.
ويبقى واضحا أن البطء في عمليات المراقبة و الحسم القضائي إضافة إلى عدم ملائمة التشريعات الوطنية مع مقتضيات الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد التي صادق عليها المغرب سنة 2007 هو ما جعل المغرب في تراجع مستمر على مستوى مؤشر الفساد العالمي
هذا الوضع أيضا جعل رئاسة النيابة العامة تواجه انتقادات حقوقية مباشرة لطريقة تعاطي القضاء والمصالح المكلفة بالبحث والتحقيق مع ملفات الفساد المالي، بعد أن استهلكت بعض القضايا سنوات دون أن يتم الكشف عن المتورطين فيها، فيما تم تبرئة آخرين، أو تمتيعهم بعقوبات موقوفة التنفيذ رغم خطورة الأفعال المرتكبة، والتهم الثقيلة الموجهة إليهم.
واقع عنيد جعل الرهان على القضاء للتصدي للفساد والرشوة والإفلات من العقاب والجانب الدستوري والقوانين التنظيمية الداعمة لتعزيز القضاء كسلطة مستقلة يصطدم بمؤشرات سلبية في طريقة تعاطي القضاء مع ملفات الفساد.
“مجرمون” أحرار
المؤشرات لخصها حماة المال العام في طول أمد البحث أمام الشرطة القضائية الذي يستغرق في بعض الحالات أكثر من خمس سنوات، وغياب المتابعات في حالة اعتقال بعد أن تمتيع عدد من المتهمين بالسراح رغم أن الأفعال المرتبكة من طرفهم خطيرة وترتبط إما بالتزوير أو اختلاس وتبديد أموال عمومية، أو الرشوة التي حصل بعض المتابعين فيها على السراح في قضايا أثارت جدلا كبيرا لدى الرأي العام.
كما أن صك الانتقادات الموجهة للنيابة العامة تضمن أيضا”التراخي”في التعاطي مع بعض الملفات حيث تمت الإشارة إلى بعض الحالات التي حركت فيها النيابة العامة متابعات في حالة سراح، وهي الحالات التي طرحت الكثير من علامات الاستفهام بعد إحالتها على قاضي التحقيق مع رفع اليد عن تقديم أي ملتمس بوضع المتهمين بالسجن، أو متابعتهم رهن الاعتقال ، وذلك من خلال الاكتفاء بعبارة تمنح للقاضي صلاحية “اتخاذ ما يراه مناسبا”، وهو ما اعتبر تملصا من أداء الدور المنوط بالنيابة العامة من خلال رمي الكرة في ملعب قاضي التحقيق رغم أن الأمر يتعلق بملفات مرتبطة بجرائم الأموال.
كما سجلت عدة مؤاخذات على ملتمسات النيابة العامة خلال عدد من المحاكمات المتعلقة بجرائم الأموال بحكم أنها تبقى “ضعيفة” من حيث الجانب القانوني، كما يتم أحيانا تأخير الجلسات لمدة تفوق 4 أشهر دون أي اعتراض من النيابة العامة بشأن أجل تأخير الملف رغم أن لها الحق في ذلك.
عقوبات ناعمة
ملاحظات جعلت حماة العام يجزمون بأن القضاء لا يخوض معركة مواجهة الفساد ب”الجدية اللازمة”، وهو ما يترجم أيضا من خلال صدور عدة “أحكام مخيبة للامال” و”مثيرة للريبة ” بفعل عقوبات مفرطة في النعومة، وتشمل وقف التنفيذ، و في حالات أخرى البراءة، وهي أحكام اعتبرت أنها تشكل “مؤشرا سلبيا للغاية” خاصة مع وجود أحكام صدرت بشكل مخالف للقانون، وتتضمن “تشجيعا وتحريضا على استمرار ممارسات الفساد، ونهب المال العام”.
مؤاخذات تكرس في عمقها التعامل الموسمي مع ملفات جرائم الأموال من خلال تسويقها واستهلاكها إعلاميا، ليبقى الثابت أن حجم الفساد المالي أكبر بكثير، ويبقى بحاجة لإرادة حقيقية من الدولة تترجم من خلال جميع المؤسسات المعنية.
الواضح أن حالة المد والجزر التي يعيش على إيقاعها تعامل الدولة مع عينة محددة من ملفات الفساد المالي، واستمرار اغماض العين عن باقي الاختلالات التي تكشفها وسائل الإعلام الجادة، وجمعيات حماية المال العام، يعطي انطباعا بأن فتح ملفات الفساد الكبير سيبقى مجرد نوايا مع وقف التنفيذ.
تعليقات ( 0 )