وهبي يخوض في الحلال والحرام ..ويؤكد أن تأخر سن الزواج فرض البحث عن استراتيجيات فردية

قال وزير العدل عبد اللطفي وهبي  أنَّ الحريات الفردية مصلحةٌ وطنيةٌ تستجيبُ لمقتضياتِ الحداثةِ ولا تتعارضُ مع روحِ الدِّينِ الإِسْلاَمِيِّ.
ونبه وهبي في كلمة له حول الحريات الفردية إلى أن منبع الْفِتَنِ يمكن في نُزُوعِ الأفْرادِ إلى التَّدخُّلِ في الحياةِ الشَّخْصِيَّةِ لِبَعضهِمُ الْبَعْضَ. وَهُوَ نمَطُ التَّسَلُّطِ الذِي حاوَلَ الْبَعْضُ أنْ يُشَرْعِنَهُ بِدعْوَى “شَرْع الله”، إلّا أنَّ المغارِبَةَ بِنَباهَتِهِم فَطِنُوا إلى أنَّ الاسْمَ الْحقيقي هُوَ “شَرْعُ الْيَدِ”، ما يَعْني الْفَوْضَى والْفِتْنَةَ. تِلْكَ هِي الْحَقيقةُ المُرَّةُ التِي جَعلَتْ تاريخَنَا الإسْلامِيِّ لا يَخْلُو مِنْ فِتَنٍ كانتْ تَبْدُو أَحْيانًا “كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظلِمِ”، وِفْقَ تَنبُّؤَاتِ أحَدِ الأحاديثِ النَّبَوِيَّةِ.
وتابع ذات المسؤول الحكومي الذي يواجه اتهامات بمحاولة  هدم أساس الأسر المغربية  أنه و “بِالرَّغْمِ مِن أنَّ مَفْهومَ الْحُرِّياتِ لهُ تاريخٌ تَداوُلِيٌّ مَحْدُودٌ وقَصيرُ الزَّمَنِ، إلَّا أنَّ ما يَعِيشُهُ المغْرِبُ مِنْ تَحوُّلاتٍ اجتماعِيّةٍ عَميقَةٍ يَجْعلُ المَوْضُوعَ ليْسَ مِنْ بابِ التَّرَفِ، بلْ يِتعَلَّقُ بالانْتِقَالِ الاجتِماعِيِّ الذِي يَشهده المغْرِبُ. وَهُنَا يُمْكِنُني الإشارَة إلى أهَمِّ التَّحوُّلاتِ”
كما قال وهبي أن أخُّرُ سِنُّ الزَّوَاجِ بِالمغْرِبِ، بِحيْثُ أنَّ مُعدَّلَ سِنِّ الزَّواجِ يُقارِبُ 26 سَنَةً عِنْدَ الإناثِ و32 عندَ الرجالِ، وَبِغضِّ النَّظرِ عنِ الموْقِفِ الدِّينِي والأخْلاقِي، فَإِنَّ هذَا التَّأخُر يجعَلُ الشَّبابَ البالِغِينَ يَبْحثونَ عنْ استراتيجياتٍ فَرْدِيةٍ مُختلِفَةٍ وَبَدِيلَةٍ.
ووقف وهبي عند التَّحَوُّلُ مِن مَفْهُومِ الأسْرَةِ التَّقْليدِيَةِ إلى أنواعٍ وأشكالٍ جَديدَةٍ، حيْثُ لم نَعُدْ أمامَ نمط واحد من الأسرة، وَإنَّمَا أنماط مُتعَدِّدَة: الأُسرَةُ الأبَوِيَّةُ التَّقْليديةُ، والأُسرةُ الأُمُومِيةُ المُكوَّنَةُ منْ أُمٍّ وأطفالِهَا، وأُسرَةُ الْقَرابَةِ المُكَوَّنَةِ مِن أبٍ وأُمٍ وأَطفالٍ وأَقارِبَ، والأُسرَةُ الأَبْنَائِيَةُ، وأُسرَةٌ بِلاَ أطفالٍ، وأُسرَةُ الأَقارِبِ بِلاَ زَوْجٍ أَوْ زَوْجةٍ، وغيرُهَا مِنْ أنواعِ الأُسَرِ التِي أَنْتَجَهَا المُجتَمَعُ الحَديثُ،
كما تحدث عن الإِقْلاعُ الثقافِيُّ الذِي عَرَفهُ المغربُ في الْعُقُودِ الأَخيرَةِ. حسبَ الأَرْقامِ التِي قَدَّمهَا الإِحصاءُ الْعامُّ للسُّكَانِ الذِي أُجْرِيَ سنةَ 2014، فبيْنَ عَاميْ 2004 و 2014 انخَفضَ مُعدَّلُ الأُمِّيَةِ بيْنَ النِّساءِ بِنِسْبةِ 12,6 %، مُقابِلَ انخِفاضِهَا عِنْدَ الرّجالِ بِنِسبةِ %8,6، وَتُفِيدُ التَّوقُّعاتُ بِأَنَّ نِسبَةَ الأُمِّيةِ لدَى الإِناثِ لنْ تتَجاوَزَ نِسبَةَ 8 %، كمَا أنَّهُ مِنَ المُلاحَظِ أنَّ الإِناثَ بينَ 15 و 19 سنةٍ هنَّ أَقَلَّ الْفِئاتِ عُرْضةً للأُمِّيَةِ في السَّنواتِ الأَخِيرةِ، خُصوصًا معَ ما سَبَقَ الْحَدِيثُ عنْهُ مِن انحِسارِ المَجالِ الْقَرَوِيِّ لِصالِحِ المَجالاتِ الْحضرِيَةِ، فَضْلًا عن جُهُودُ الدَّوْلةِ في مُحارَبةِ الأُمِّيَةِ والهَدْرِ المَدْرَسِي، وهُوَ ما يُنْتِجُ في الأَخِيرِ مُجتَمعًا يَسُودُهُ الْفَرْدُ الْحضرِي المُتعلِّمُ ذَكرًا كانَ أوْ أُنثَى، مِمَّا يُكرِّسُ مَزيدًا مِنَ الْخُروجِ عنْ دائِرَةِ الْجماعَةِ في شَكْلِهَا الأُسَرِيِّ أوْ المُجْتَمَعِيّ.
كُلُّ هذِهِ التَّحوُّلاتِ التِي عَرَفَهَا المَغرِبُ أدَّتْ حسب وهبي إلى نُمُوِّ ثَقافَةِ الْحُرِّيَةِ، وأَحدَثتْ اسْتِعدَادًا سُوسْيُولُوجِيًا وَفِكْريًا لاسْتِيعابِ مَفاهيمَ الْحُرِّيَةِ والاستقلاليَةِ، ولا يَسعُنَا بالتّالي إلّا العمل على إعادةِ قِراءَةِ الدِّينِ والْقِيَمِ بِمَا يَتوافَقُ معَ تِلكَ المُتَغيِّرَاتِ والتَّحوُّلاتِ، دُونَ أيّ مُصادَمَةٍ مزعومة بين الحُقوق الكونية والثَّوَابِتِ المحلية.

وقال وهبي إنَّ تَوْسِيعَ الْحُرياتِ الْفرْدِيَةِ في مَشرُوعِ إِصلاحِ الْقانونِ الْجِنائِي المغْرِبِي هُو انسِجامٌ أوّلاً معَ التداعِياتِ الاجتِماعِيَةِ التِي تَخْلُقُها السِّياسَةُ الاجتِماعِيَةُ التي بَاشرَتْهَا الْحُكومَةُ المغربيةُ مُنْذُ اعتِلائِها الْقَرارَ الْحُكومِي بِالبِلادِ. وهُو انسِجامٌ ثَانيًا معَ المَعِيش الوَاقِعِي لأَدْوارِ الْفَردِ المغْرِبِي داخِلَ الْحياةِ الْعامَّة للمُجتَمَعِ المغْرِبِي.
وتابع بأن كل هذه المظاهرُ الحضارية لفعل المواطنة النشطة الذي يتبناه الفرد المغربي تفرض على كل إصلاح للقانون الجنائي المغربي أن يُعلي من شأن الحريات الفردية ويُكرم المواطن المغربي فعليا في مستوى الحريات والحقوق والمسؤوليات.

وقال وهبي “الإسلامُ هو الديانة التي مجَّدت وصانت الحريات الفردية. فلا توجد في الدين الإسلامي مؤسسة تتوسط بين الله عز وجل والإنسان المؤمن، هذا الأخير له الحرية وفق تجربته وظروفه وخصائصه في عيش إيمانه ومعتقداته بمرجعية القرآن الكريم والحديث النبوي الطاهر”.
وأردف “صحيحٌ أن هذا لم يمنع من ظهور زعاماتٍ تدَّعي احتكار الفهم الصحيح للدّين وتعمل على فرض سلطتها على المؤمنين لكن ذلك يعد ظاهرة سياسية وليست انبثاقا من أي نزعة أرثدوكسية مزعومة في الإسلام.
وشدد على أن الدفاع عن الحريات الفردية اليوم في إطار مشروع إصلاح القانون الجنائي المغربي ليس تَرفا فكريا ولا هو قضيةَ نخبة “تتعالم” بها على مجتمعها. بل هو من صميم الدفاع عن التنمية الشاملة والمستدامة لمجتمعنا التَّواق للتَّقدم والازدهار.
وقال “كلُّ أوراش الإصلاح المُنجزة أو الّتي في طريقها للإنجاز، هي أوراش إصلاحية لتحقيق التَّقدم الاجتماعي، بمعنى أن المغاربة لا يريدون تنمية تُختزل في النِّسَب والأرقام والإحصائيات والبيانات الشكلية، بل ينشدون التقدم الاجتماعي الذي هو عنوان الرُّقي الحضاري.
وفي رد على منتقديه قال وهبي “لقد انخرط المغربُ بجدية في كل برامج الأمم المتحدة للتنمية ( ). وإذا كان قد حقَّق خطواتٍ مُهِمّةٍ على دَرْبِ التنمية، فأنه في حاجة اليوم إلى تعميق كلِّ مكتسباته التي أصبحت واقعًا معيشيًّا، ويمضي في إِقرار متقدم للحريات الفردية بما ينسجم مع التحوّلات الاجتماعية والثقافية داخل سِياق المجتمع المغربي”.

وقال إنّ تحريض الناس على التدخل في الحريات الشخصية لبعضهم البعض لا يعني مُجرّد انتهاك للكرامة الإنسانية، حيث يتمّ التعامل مع الناس باعتبارهم قاصرين يحتاجون إلى الحِجر والوصاية، بل إنه انتهاك لأحد حقوق الله، الحقّ في الثواب والعقاب، لا سيما بخصوص القناعات الشخصية. وقد قيل لصوفي ذات مرّة: إنّ رجلًا يشتُم الله ويجبُ علينا أن نقتلَه. فردّ عليهم بكل هدوء: إذا أدْرَكْتُم بأنّه لا يُحبُّ اللهَ فمن أدراكُم بأنّ الله لا يُحبّه؟!

وأضاف المجتمع الذي نصبو إليه انطلاقًا من هويتنا الرُّوحية المغربية، وكذلك بالحس السليم والفطرة السليمة، هو مجتمع يُدركُ فيه الجميع بأنّ الجميع راشدٌ، وبحيثُ لا أحدَ يُنَصِّبُ نفسه وصيًّا على أحد، ولا أحد يحقُّ له أن يتسلّط على خصوصيات أحد، باسم أي كان.
وزاد وهبي “كلُّنا مسلمون، كلنا مسلمون إلى الله، وذلك بصرف النظر عن قناعاتنا الشخصية. كلنا نرجئ أحكام الله لله وحده، ونحترم خياراتِ بعضِنا البعض في هذه الحياة الزائلة، ونُرجئ الحُكم الدينيَّ الأخرويَّ للآخرة، احتراما لكرامة الإنسان، وامتثالًا لروح الإسلام، واستجابةً للخطاب القرآني الذي يُؤكد في عديد من آياته البينات بأن الحُكم لله وحده.

وأردف “حينما نسعى لإجراء أي إصلاح أو أي تجديد في مجال منظومة الحقوق والحريات في بُعدها الفردي والجماعي، فإنّما نسعى لتحقيق ذلك في إطار من الاحترام التام والتوفيق بين مختلف الثوابت الدستورية للمملكة، وكذا بين مختلف المرجعيات المجتمعية. وفي حالة الاختلاف نحتكم إلى مؤسسة إمارة المؤمنين، تحقيقًا لمقاصد الدين الكُلِّية واستلهامًا لروحه في الحرية والكرامة والعدل والمساواة بين الناس”.
وقال وهبي أن جلالة الملك باعتباره أميرًا للمؤمنين هو الكافل لحقوق المواطنات والمواطنين والضامن لحرياتهم بمقتضى الدّستور، في إطار من الالتزام بثوابت الدين وكلياته ومنظومة قيمه الكونية. وهو ما يُفسر تشبّث ملوك المغرب إلى اليوم بمبدأ الشرعية، وتشديدهم على أنهم لا يُحلّون حرامًا ولا يُحرمون حلالا . وهو ما سبق أن عبّر عنه جلالة الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة الثانية من الولاية التشريعية السابعة عام 2003 بالقول: “لا يمكنني بصفتي أميرًا للمؤمنين أن أحلَّ ما حرَّم الله وأُحَرِّم ما أحلّه”.
غير أن التزام وليّ الأمر بمبدأ الشرعية في سياق نهوضه بواجب التحكيم، وفق وهبي لم يأت ليغل يده بقدر ما أتى للإفساح له في عملية الاجتهاد. وفي هذا السياق يحضرني ما سبق أن استخلصه المؤرخ والمفكر عبد الله العروي في أطروحته التأسيسية حول “الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية..” من أن “السلطان إمام، وتفرض عليه وظيفته إقرار وضمان سموّ الأحكام الشرعية. وهو من موقعه هذا أعلى سلطة فقهية وقضائية في البلاد، يبثّ ويفصل في القضايا المستعصية..” .
وقال وزير العدل أن التزام الملك بمبدأ الشرعية في الخطاب سالف الذكر جاء مرتبطا ومشروطا بحرص جلالته على أن يتمَّ ذلك “في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنيّة”.
وشدد وهبي على أن نظرية المقاصد شكَّلت الإطار النظري والمنهجي الذي أسْعَف العقل الإسلامي المستنير في النهوض بأهم عملية تجديدية شهدها الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر منذ محمد عبده مرورًا بالطاهر بن عاشور وعلال الفاسي وغيرهم. وبالتالي فورودها في الخطاب الملكي يؤكد أن الالتزام بمبدأ الشرعية (لا أحل ما حرم الله ولا أحرم ما أحله) لا يتم على وجهه الشرعي الأمثل إلّا من خلال الالتزام بعملية الاجتهاد والتجديد وفق رؤية مقاصدية، انطلاقا من مقاربة تشاورية قائمة على الحوار وإشراك جميع القوى والهيئات المعنية، في إطار من الاعتدال والاجتهاد المنفتح.
وقال وهبي أنه وبحلول القرن السابع عشر لم يكن من المستغرب في الإمبراطورية العثمانية بالنسبة للمذهب الفقهي الرسمي -المذهب الحنفي- أن يورد المراسيم السلطانية في كتبه الشرعية. وفي إطار هذا النوع من الاعتراف باختصاص الدولة بالسلطة القانونية، تَكْمُن سلطة التّقييد الإداري، أي عدم تحريم الشيء عند الله، لكنه يغدو غير شرعي بالنسبة إلى الدولة. وهو ما يعرف بـ”تقييد المباح” حيث تَوَسَّعَ العملُ به في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ومَرَدُّ ذلك إلى القضايا المثيرة للجدل مثل الرق وتعدد الزوجات حيث أكد محمد بَيْرَم الخامس وبعده محمد عبده وبعدهما الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي إلى حق الحاكم في تقييد المباح كأداة أساسية لإلغاء الرق وتعليق ووقف العمل بالعديد من الأحكام الشرعية القطعية لانتفاء شروط تطبيقها؛ بحيث سوف يترتب على الالتزام الحرفي بها نقيض المقاصد والآثار التي استهدفها الشارع الحكيم منها. ومعلوم أن التراث الفقهي الإسلامي غنيٌّ بالحالات التي تم فيها مثل هذا التعليق.
وأكد وهبي أن مبدأ الشرعية المتمثل في قول جلالة الملك: “لا يمكنني بصفتي أميرا للمؤمنين أن أحلّ ما حرم الله وأحرم ما أحلّه” يؤكد صلاحياته الدستورية كسلطة تحكيمية شرعية عليا تدرأ الخلاف بين مكونات الأمة. والتحكيم لا يكون بداهة إلّا بالتوفيق والتشاور والاجتهاد سعيا لما فيه المصلحة: أينما كانت المصلحة فتم شرع الله، أينما كان العدل فتم شرع الله.. يضيف وهبي.

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي