بدون أي خطة واضحة لحل معضلة البطالة، والتي وصلت مستويات قياسية إثر جائحة فيروس “كورونا”، تواصل الحكومة تنفيذ برامج أقرب إلى “البريكولاج” منها إلى مخططات وبرامج حقيقية تجيب عن انتظارات مئات الآلاف من خريجي الجامعات ومعاهد التكوين المهني وغيرهم من الأشخاص الباحثين من شغل. فأن ننفق ميزانيات ضخمة على مشاريع ستمول بضعة آلاف من العاطلين، ووفق مقاربة أساسها قروض مضمونة كما في برامج سابقة، فهذا هو “البريكولاج” بعينه.
لقد أعلنت الحكومة أنها ستعطي الانطلاقة خلال هذا الشهر للنسخة الثانية من البرنامج، والذي يهدف كذلك إلى مواكبة وتمويل ما يناهز 10000 مشروع، حيث خصص له غلاف مالي يقدر ب 1.25 مليار درهم برسم سنة 2023. لكنها لم تكشف لنا عن تفاصيل النسخة الأولى، وما إذا كانت عملية التمويل قد نجحت فعلا أم أن هؤلاء الشباب الحالمون بمستقبل زاهر قد وجدوا أنفسهم أمام برنامج عبارة عن “جعجعة بلا طحين”، ما دام أن النجاح رهين بنجاح المقاولة حتى يستطيع هؤلاء الشباب أداء ما في ذمتهم من ديون، عوض أن تتم “جرجرتهم” في المحاكم كما وقع البرنامج الشهير “مقاولتي”.
لكن مقابل هذه الإجراءات البسيطة، والتي تحاول الحكومة إلباسها لبوس “المخططات الكبرى” و”الأوراش المهيكلة”، نجد أن الفاعل الحكومي يتعامل بسخاء منقطع النظير مع اللوبيات الاقتصادية. فقد حمل قانون المالية 2023 هدايا بالجملة إلى رجال الأعمال، حتى إن بعض المرقبين لم يترددون في وصفه ب”قانون الباطرونا”، بالنظر إلى الإجراءات الكبيرة التي تجاوزت حتى انتظارات الاتحاد العام لمقاولات المغرب.
هدايا ضريبية
آن للاتحاد العام لمقاولات المغرب أن يمد رجليه، بعدما باتت “أذرعه” قادرة على خياطة القوانين على مقاس كبار الشركات، بينما تعمد الحكومة على “عصر” الشركات الصغيرة والمقاولين الذاتيين بإجراءات لن تؤدي إلا إلى إفلاسهم والتحاقهم بطوابير العاطلين. فقد كشف قانون المالية لسنة 2023 أن الحكومة استجابت وتفاعلت فوق سقف توقعات “الباطرونا” لنجد أنفسنا أمام قانون يخدم الكبار.. ويسحق الصغار.
لقد نجح اللوبي الاقتصادي في منع التنصيص على أي بند يسعى إلى تضريب الثروات والأرباح العالية، بما في ذلك تلك التي تحققها شركات المحروقات. بند كان يفترض أن يتم التنصيص عليه بكل وضوح، خاصة بعدما كشفت كل الأرقام عن مراكمة الشركات الكبرى، وعلى رأسها شركات المحروقات، أرباحا خيالية على حساب المواطنين، وعلى حساب ميزانية الدولة التي تضخ اعتمادات كبيرة من أجل تشغيل أزيد من 100 ألف سيارة في حظيرة الدولة.
كما أقرت الحكومة تخفيضا ضريبيا مهما بالنسبة للشركات التي تحقق أرباحا تقل عن 100 مليون درهم، والتي تشكل النسبة الأكبر في النسيج المقاولاتي، حيث تم تخفيض معدل الضرائب من 31 إلى 20 في المائة، بينما تم رفعها بالنسبة للشركات التي تحقق أزيد من 100 مليون درهم (عددها محدود) إلى 35%. وهذا يعني أن الشركات الصغرى والمتوسطة لن تستفيد من شيء مقارنة مع تلك التي تحوم في فلك أرباح تصل إلى 100 مليون درهم.
هذه القرارات يمكن اعتبارها أكبر هدية حصلت عليها الشركات، جرت في الوقت الذي اختارت الحكومة التقشف وعدم التجاوب مع مطالب النقابات، لاسيما من حيث مراجعة نسب الضرائب المفروضة على الأجور، حيث بقي المقترح في حدود محتشمة ولا يوازي تراجع القدرة الشرائية لعموم المغاربة. فبعد دخول السنة الجديدة وتنفيذ قانون المالية 2023، وجد الموظفون والأجراء أن قيمة التخفيض الضريبة ضعيفة جدا ولا تعكس حجم “البهرجة” التي رفقت الموضوع.
لوبي العقار.. لا تزعجوه
على الرغم من أننا في الشهر الثاني من تنفيذ قانون المالية 2023، إلا أن الحكمومة لم تصدر حتى اللحظة المرسوم الذي سيحدد قيمة الدعم المخصص للمغاربة من أجل الولوج إلى السكن وذلك بسبب الضغوطات الكبيرة التي يمارسها اللوبي الذي يسعى إلى إشعال الأسعار على أساس أن تؤدي الحكومة الفارق للمغاربة، أو بصيغة أخرى أن تتلوى الحكومة أداء قسط من أرباح المنعشين العقاريين التي لا تتغير مهما حاولت الدولة ضبط “الريع” الذي استفاد منه القطاع العقاري.
اليوم يحاول لوبي العقار رسم صورة قطاع “متضرر”. لكن بالعودة إلى بعض التقارير، فإننا نجد بأن هذا اللوبي راكم أرباح طائلة، لاسيما خلال السنوات الأولى التي تم فيها إطلاق برامج محاربة السكن غير اللائق، والتي شكلت كعكة تسيل لعاب المنعشين العقاريين، بدليل عدم اهتمام كثير منهم بالسكن الموجه للطبقة المتوسطة.
في بعض التقارير التي صدرت إلى حدود سنة 2014، نجد هامش الربح الذي كان يحققه المنعشون العقاريون في السكن الاجتماعي، خلال هذه المرحلة، يفوق بكثير ما يحققه المنعشون العقاريون في دول حوض البحر الأبيض المتوسط بنسبة تتراوح ما بين 300 و500 في المئة، أي من ثلاثة إلى خمسة أضعاف دفعة واحدة.
مجلس المنافسة سبق أن أنجز دراسة خلصت إلى أن التكلفة الكلية لوحدة سكنية تصل إلى حوالي 205000 للوحدة التي تباع بثمن 250000 درهم أي بهامش ربح بمعدل 26 في المئة دون احتساب رسم الضريبة على القيمة المضافة. وإذا ما تم الأخذ بعين الاعتبار أن الدولة تقوم بإرجاع هذه الضريبة وأدائها للمنعشين العقاريين، فإن نسبة هامش الربح على المسكن الواحد تقفز إلى 31 في المئة.
وإذا كان المنعشون العقاريون ينازعون في عدد من الأرقام التي تشير إلى الأرباح الكبيرة التي يراكمونها، فإن المؤكد هو أن هذه الفئة استطاعت خلال سنوات عديدة من أن تنتزع امتيازات كبيرة مستغلة رغبة الدولة في تحسين ظروف عيش المغاربة..رغم أن النتيجة لم تكن في المستوى المأمول، لاسيما وأن جودة البناءات ومساحتها وموقعها والمرافق المتوفرة في محيطها، تطرح اليوم تحديا حقيقيا على السلطات الحكومية.
لذلك، نعيش اليوم على وقع “فطام صعب”، وما يأتي من كواليس المفاوضات الجارية يؤكد أن أرباح لوبي العقار لن تتضرر بغض النظر عن الإجراءات. فالشقة التي كانت تباع في السابق بـ25 مليون سنتيم، سيتم طرحها على الأقل بـ30 مليون سنتيم، مع استمرار نفس معايير الجودة الضعيفة. وضع سيجعل الحكومة أمام امتحان صعب في ضرورة فرض مقاييس جديدة لإنهاء مرحلة الصناديق الإسمنتية المستمرة إلى اليوم في ضواحي المدن، بدل أن نوفر فضاءات عيش مشترك بشروط تحترم كرامة المواطنين.
تعليقات ( 0 )