لقد أثار الجواب الذي تقدمت به السيدة وزيرة الاقتصاد والمالية لسؤال برلماني حول انتقاء المحامين تقاشات غير جدية بخصوص مهمة الدفاع عن مصالح الدولة أمام القضاء: فهل نتحدث عن ممثل واحد للدولة (محامي الدولة) أم عن خيارات متعددة أملتها النصوص القانونية والواقع العملي؟.
إن توجه المشرع المغربي بأن تكون للدولة عدة خيارات من أجل الدفاع عن مصالحها أمام القضاء، لم يكن من سبيل العبث، بل لغاية سعى المشرع من خلالها أن يمنح للإدارات العمومية فرصة قصد دراسة الملفات وتقييم المخاطر التي ستترتب عنها (المالية والقانونية والاجتماعية واالاقتصادية والالتزامات الدولية…) وذلك قبل اسناد مهمة النيابة إلى جهة معينة. وبناء عليه تكون أمام الإدارة الخيارات التالية :
-إما أن تدافع عن نفسها مباشرة بواسطة موظف منتدب من قبلها،
-و إما أن تلجأ إلى الاستعانة بمحام من المحامين المسجلين بإحدى هيئات المحامين بالمغرب،
-وإما أن تعمد إلى تكليف الوكيل القضائي للمملكة لهذا الغرض.
وقد ابانت التجربة أن تعايش هذه الخيارات أملته، كذلك، عدة اعتبارات يطغى عليها بالدرجة الأولى الاعتبار المالي والميزانياتي[1]، ويوازيه في الأهمية الاعتبار المتعلق بضرورة إرساء الحكامة الجيدة في تدبير منازعات الدولة بصفة عامة ووضع خط ناظم لهذا التدبير.
و على هذا الأساس، فإنه وعلى عكس ما بسود الإعتقاد، فإن المقتضيات الجاري بها العمل تعطي الصلاحية و التأهيل القانوني و التدبيري لأشخاص القانون العام لاختيار مسلك الدفاع عن مصالحهم أمام القضاء بواسطة محامين ، وهم في هذه الحالة من يتولون التعاقد مع المحامي الذي يقع عليه الإختيار و يؤدون أتعابه بحسب الجهد المبذول و طبيعة كل قضية.
ومن ثمة، فإن واقع الحال القانوني يشهد على أن الوكيل القضائي للمملكة وغيره من المصالح الإدارية المكلفة بالدفاع عن مصالح الدولة لا يحتكرون وظيفة الدفاع عن أشخاص القانون العام، فالكثير من سوء الإعتقاد يتسرب إلى هذا الموضوع، فعلى سبيل المثال فالنصوص القانونية الجاري بها العمل جعلت مباشرة الوكالة القضائية للمملكة لدورها في الدفاع عن الإدارات العمومية رهينا بتكليفه من هذه الأخيرة وإمداده بمعطيات النزاع وتزويده بوثائقه ومستنداته، أي أن تحرك الوكيل القضائي للمملكة في المسطرة القضائية لا يكون آليا ولا تلقائيا ولا يهم كافة المنازعات . كما أن المنازعات التي تتعلق بالضرائب وريع الأملاك المخزنية والمنازعات المتعلقة بنزع الملكية من أجل المنفعة العامة، تدبر من طرف الإدارات المعنية سواء مباشرة أو عن طريق مكاتب المحاماة.
وعلاوة على ذلك، فإن التعديل الذي طال القانون المنظم لمهنة المحاماة، والذي حملته المادة 31 منه، ألزم المؤسسات العمومية بانتداب محام لتمثيلها والنيابة عنها أمام القضاء، بما يفيد أن الدفاع عن المؤسسات العمومية يتولاه محامون مكلفون من طرف هذه الأخيرة باختيارها.
وفي نفس السياق تضمنت القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية بمستوياتها الثلاث، الجهات والعمالات والأقاليم والجماعات، مقتضيات خاصة ترسي مؤسسة موازية هي الوكيل القضائي للجماعات الترابية يتولى تقديم المساعدة القانونية للجماعات الترابية وهيئاتها ومؤسسات التعاون بين الجماعات الترابية ومجموعات الجهات ومجموعات العمالات والأقاليم ومجموعات الجماعات ومجموعات الجماعات الترابية ويؤهل أيضا للترافع والنيابة عنها أمام المحاكم ومباشرة الدفاع عن مصالحها في مختلف مراحل الدعوى.
و مؤدى ما ذكر، أن جل المؤسسات المكلفة بالدفاع بما فيها الوكيل القضائي للمملكة لا تدبر إلا نسبة من منازعات أشخاص القانون العام، بينما تبقى نسبة أخرى خارجة عن نطاقها ومن اختصاص مؤسسات أخرى أو من اختصاص مكاتب المحاماة كما هو مقرر بالنصوص القانونية ذات الصلة بميدان الدفاع عن أشخاص القانون العام.
و الجدير بالذكر أنه بعد صدور تقرير المجلس الأعلى للحسابات سنة 2015،عملت الوكالة القضائية للمملكة على تبني استراتيجية للدفاع عن الدولة أمام القضاء تتلخص محاورها في بذل الجهود لتبني مقومات النجاعة و التجويد في مجال اشتغالها وتنويع تدخلاتها حفاظا على المال العام وترسيخها لجملة من الممارسات الفضلى من قبيل المواكبة القانونية للإدارات وإرساء دعائم الحكامة القانونية الجيدة والوقاية من المنازعات واستشراف المخاطر القانونية والقضائية و جنوحها نحو اعتماد الوسائل البديلة في فض المنازعات و تعزيز النهج التصالحي، انعكس إيجابا على مؤشرات الأداء ،حيث استطاعت خلال الخمس سنوات الأخيرة توفير ما يقارب 13مليار درهم لخزينة الدولة ومعالجة ما يزيد عن تمانين ألف قضية، لتبلغ حصيلة القضايا التي تمت معالجتها منذ إحداث هذه المؤسسة إلى أزيد من 480.000 قضية. وفي إطار تعميم هده التجربة، فقد نظمت الوكالة القضائية للمملكة لقاءات وأيام دراسية وورشات تكوينية تمت خلالها تقديم استراتيجياتها وتجربتها في تدبير المنازعات والوقاية منها ومن المخاطر القانونية.
وإذا كانت الإدارة تلجأ إلى خدمات المحامين في بعض الحالات، فإن ذلك يتم بتنسيق مسبق مع كافة المصالح المعنية، والتي تهم بصفة أساسية قضايا ذات صبغة استعجالية و تحفها السرعة وإكراه التواجد بقرب المحكمة المعروضة على أنظارها القضية. مع استحضار أن النتائج المحصل عنها تؤكد أن هذا النوع من القضايا تصدر في جلها أحكام لصالح الدولة حسب الإحصائيات المعلن عنها في التقارير السنوية للوكالة القضائية للمملكة وتقرير المجلس الأعلى للحسابات, نتيجة التنسيق المحكم بين الإدارة والمحامي والتكامل بينهما في الخبرة والتجربة.
و ارتباطا بذلك، فإن الوكالة القضائية للمملكة وضعت مسطرة دقيقة لانتقاء المحامين الذين تتعامل معهم، تم فيها تحري مبادئ الشفافية والموضوعية والوضوح، وهي مسطرة لئن كانت تتأسس على أسلوب التكليف المباشر بتنسيق واستشارة مع الإدارة المعنية بالنزاع[2]، فإن انتقاء المحامين يستند على عدة اعتبارات جوهرية، من قبيل مدى كفاءة المحامي وسمعته وتخصصه في المجال القانوني ذي الصلة بموضوع الدعوى المراد تكليفه بها، فضلا عن مدى تفاعله الفوري مع المتطلبات والتواصل الدائم مع المؤسسة وشركائها والنجاعة ، وتحديد مبلغ الأتعاب في مستويات معتدلة مقارنة مع ما هو معمول به، و هذه المعطيات عاينها واطلع عليها المجلس الأعلى للحسابات،حين أوصى، في تقريره المعد سنة 2015 بمناسبة إجرائه لتقييم تدبير المنازعات القضائية للدولة، بجعل إمكانية اللجوء إلى المحامين، كأحد الخيارات المتاحة في الدفاع عن الدولة، تتم باستشارة مع الوكيل القضائي، مما سيمكن من توحيد استراتيجية الدفاع وعقلنة المصاريف المتعلقة بالاستعانة بمحامي.
و لا غرو أن تموقع الوكالة القضائية كمديرية تابعة لقطاع المالية يجد مسوغاته وفي كون وزارة المالية هي المكلفة بتسيير وتدبير السياسة المالية والاقتصادية للدولة، وما الحفاظ على المال العام إلا تطبيقا من تطبيقات هذه السياسة ، و كذلك في الدور المنوط بهذه الوزارة في تتبع ومراقبة نفقات وايرادات كافة القطاعات الوزارة، وهو نفس الدور الذي تتولاه الوكالة القضائية للمملكة على مستوى المسطرة القضائية، سواء بصفتها مدخلة وجوبا في الدعاوى التي تستهدف التصريح بمديونية الدولة وغيرها من أشخاص القانون العام أو من خلال تحصيل المال العام في إطار استرجاع صوائر الدولة تطبيقا لمقتضيات الفصلين 28 و32 من المعاشات المدنية والعسكرية واسترداد المبالغ المختلسة والمبددة في إطار جرائم الفساد المالي التي بلغت خلال سنة 2020 ما مجموعه 139 مليون درهم. كما أنه لا يمكن الحديث عن نزيف مالي بسب المنازعات وذلك لكون أثرها المالي الإجمالي لا يتجاوز نسبة واحد في المائة (1%) من الميزانية السنوية المخصصة للاستثمار. وبالتالي فإن أثرها المالي يبقى محدودا ومتحكما فيه وتأتي التعويضات الممنوحة أو المحكوم بها في إطار جبر الضرر بالنسبة للمتضررين من أعمال الإدارة عبر إيصال الحقوق إلى أصحابها وتعزيز مبادي دولة الحق والقانون.
—————————————————————————
[1] تكلفة الاتعاب خلال سنة قد تتجاوز 1,5 مليار درهم بحكم أن عدد القضايا أماما القضاء الإداري يتجاوز 55.000 قضية سنويا (انظر نوقع وزارة العدل)، دون احتساب القضايا أمام القضاء المدني والتجاري والدولي.
[2] لا سيما وأن هذا النوع من التعاقدات لا يخضع لمسطرة المنافسة المعتمدة في مجال الصفقات العمومية.
تعليقات ( 0 )