المغرب يبني تحالفات دولية جديدة على مبدأيْ الاستقلالية والبراغماتية

ضمن إعادة صياغة التوجهات الاستراتيجية للدولة وقضية الصحراء ليست وحدها السبب

 
في الخطاب الذي ألقاه أمام القمة المغربية الخليجية، في 20 أبريل 2016 بالعاصمة السعودية الرياض، عبر العاهل المغربي بوضوح على أن زمن اصطفاف المغرب اللامشروط خلف حلفائه التقليديين، قد ولّى وانتهى إلى غير رجعة. كان الخطاب قويا ومحملا برسائل واضحة في اتجاهات شتى، خصوصا قوله إن «المغرب حر في قراراته واختياراته، وليس محمية تابعة لأي بلد». وإن «المغرب رغم حرصه على الحفاظ على علاقاته الاستراتيجية مع حلفائه، قد توجه نحو تنويع شراكاته، سواء على المستوى السياسي أو الاستراتيجي أو الاقتصادي مع كل من روسيا والهند والصين».
ملاحظون غربيون وشرقيون كثيرون رأوا حينها في اللهجة القوية والجديدة للخطاب، أنها مجرد لحظة تذمر عابرة من التداعيات المأساوية التي نتجت عن موجة الربيع العربي. ولم يقرؤوا فيها حقيقة أن المغرب قد أعاد بالفعل صياغة علاقاته الدولية، على أسس جديدة. 
إن المراقب لسياسة المغرب الخارجية، يلاحظ بأنها أُعيدت صياغتها بالكامل خلال العقدين الأخيرين، بحيث أصبحت أكثر وضوحا باعتمادها مبدأي البراغماتية والاستقلالية كقاعدة ثابتة. فالعالم يوجد منذ مطلع الألفية الثالثة في طور مخاض جديد، يعيد تشكيل العلاقات والتحالفات بحسب ما تقتضيه شبكة المصالح القومية المتجددة للدول. وقد فرض هذا الواقع الجديد بالضرورة على بلادنا، أن تعيد بدورها تقييم مجمل علاقاتها الخارجية، وتعيد بناء شبكة تحالفاتها على قاعدة المبدأين سالفي الذكر، وبما تفرضه عليها تطلعاتها الاستراتيجية ومصالحها القومية. والتحليل التالي يحاول، في قراءة سياسية مختصرة، مقاربة أهم التوجهات الكبرى الجديدة للعلاقات الخارجية للمملكة.            
 
واهم من يعتقد أن المغرب استيقظ في الساعة الخامسة والعشرين، في أحد أيام الأسبوع الماضي، وقرر فجأة و”بضربة رأس” (كما يقول الفرنسيون) أن يتوجه نحو تمتين علاقاته مع أربعة دول متحالفة في أوروبا الوسطى. وواهم أيضا من يتصور بأن الولايات المتحدة اعترفت بمغربية الصحراء قبل عام، من باب رد الجميل للمغرب لأنه كان أول دولة تعترف باستقلالها. فالعلاقات الدولية للأمم ذات الثقل لا تُدار بارتجال، كما أن ما يحركها هو المصالح المتغيرة وليس العواطف والأهواء والشعارات. فبقدر ما تكتسب أمة في نفسها ثقة ووزنا، تفرض على الآخرين احترام استقلاليتها.
 
الأزمات مع الخليج
في سنة 2011، تم التوقيع على اتفاقية الشراكة الاستراتيجية، بين المغرب ودول مجلس التعاون الخليجي. وبموجبها رصدت دول المجلس دعما ماليا للمغرب، يصل إلى 5 مليارات دولار على مدى خمس سنوات (2012 إلى 2016)، بمعدل مليار كل سنة توجه لتمويل برامج التنمية بالمغرب.
لكن مشكلات معقدة لم تلبث أن باعدت بين المغرب وكل من الإمارات والسعودية. فقد كشفت تقارير أمريكية أن الخليجيين غضبوا من تبني المغرب لدستور جديد، في عز موجة الربيع العربي، ووصول “إخوان المغرب” (العدالة والتنمية) إلى الحكومة. فحاولوا الضغط بقوة على المغرب من خلال عدم دفع المساعدات المالية التي التزموا بها، لدفعه إلى التراجع عن القرارات التي اتخذها بدون جدوى.
وابتداء من تاريخ 21 يونيو 2017، شهدت العلاقات السعودية المغربية انقلابا عميقا، عندما أقدم العاهل السعودي على تعيين الأمير محمد بن سلمان وليا جديدا لعهد العرش السعودي. فغير بوصلة السياسة الخارجية السعودية 360 درجة مع المغرب.
فقد أصبحت علاقات الرياض مع دول الجوار العربي تتأسس على معيارين أساسيين، هما الموقف من الحرب في اليمن، والمقاطعة التي فرضتها السعودية مع الامارات والبحرين ومصر على دولة قطر مطلع صيف 2017. فاتخذت مواقف بمقاطعة أي دولة لا تؤيد الحرب في اليمن، أو تقيم علاقة طبيعية مع الدوحة.
ورغم أن المغرب بقي ملتزما حينها بالمشاركة ضمن “التحالف العربي” في حرب اليمن، إلا أن السعودية رفضت موقفه الذي تميز بتبني “حياد إيجابي” من الأزمة مع قطر، من خلال تأكيد الرياض على أن الحياد “ممنوع” في الأزمة الخليجية، لأنه يُعتبر برأيها تأييدا مبطنا لدولة قطر. وعلى المنوال نفسه، تعتبر الحرب في ليبيا موضوعا آخر تعمق حوله الخلاف، بين المغرب وبعض الأطراف الخليجية. فبينما غرقت كل من قطر والامارات والسعودية ومصر، في تمويل وتسليح قوى الثورة أو الثورة المضادة، سعى المغرب من جهته، إلى مصالحة الليبيين في مؤتمر الصخيرات ثم بوزنيقة وما تلاهما، من دون أن يرتهن لحسابات هذه الدولة الخليجية أو تلك. وهي المصالحة التي نسفتها التدخلات الخارجية كما هو معروف، وجرت على المغرب في المقابل كثيرا من العداء من أقرب الأشقاء. ثم تلا ذلك انسحاب المغرب من حرب اليمن بكل شجاعة.
لقد أنصفت الأيام المغرب، بعد انتهاء الأزمة الخليجية بمصالحة السعودية والإمارات والبحرين مع قطر، في قمة العلا في يناير الماضي. وكشفت تلك الأزمات للخليجيين، بما لا يدع مجالا للشك، أن اعتبار المغرب للخليج العربي أفقا استراتيجيا، لا يعني بأي حال من الأحوال أن يتحول إلى دولة تابعة تتلقى أوامرها من عواصمه.
 
العودة باستراتيجية إفريقية
لعل الاختراق الناعم لإفريقيا جنوب الصحراء، يعد من أكبر النجاحات التي سجلتها الديبلوماسية المغربية خلال العقد الأخير.
فقد تمكن المغرب من إيجاد تحالفات جديدة أعادت رسم الخريطة الاستراتيجية للقارة، وكرسته كدولة قائدة لها. والواقع أن بلادنا اختارت التوجه جنوبا نحو العمق الإفريقي، منذ وصول الملك محمد السادس إلى الحكم، حيث قامت السياسة الخارجية للمغرب على تعزيز ما اصطلح عليه بـ “التعاون جنوب-جنوب”. وذلك راجع بالأساس إلى الشلل الذي يعرفه اتحاد المغرب العربي، وأيضا إلى اقتناع المغرب بكون سياسة الكرسي الفارغ في التعامل مع إفريقيا، قد ساعد المحور المعادي المتمثل في الجزائر ونيجيريا وجنوب إفريقيا على الترويج لأطروحة انفصال الصحراء عن المغرب.
لم تتم عودة المغرب للاتحاد الإفريقي صدفة، بل إنه عندما خرج المغرب من منظمة الوحدة الإفريقية في 1984، لم يقطع علاقاته بالدول الإفريقية. بل حافظ على علاقات ثنائية مع مجموعة من الدول التي تعترف بوحدته الترابية، خصوصا محور الدول الفرنكوفونية. بل تم التأسيس لهذه العودة بشكل منهجي ودبلوماسي محكم، فارتباط المغرب بجذوره الإفريقية تم التنصيص عليه والاعتراف به في دستور المملكة (2011)، الذي شدد في تصديره على الرافد الإفريقي للمغرب.
وبالإضافة إلى سياسة ربط العلاقات الثنائية وتوسيع شبكة أصدقاء المغرب في إفريقيا، قام المغرب بمنح وثائق الإقامة إلى العديد من المهاجرين الأفارقة في إطار دمجهم في المجتمع المغربي. وهي الخطوة التي لقيت استحسان صدى إيجابيا لدى الدول الإفريقية وأكدت أن التوجه الإفريقي أمر حتمي، وليست فقط مجرد مزايدات من أجل مكاسب سياسية ظرفية.
وهكذا استعادة مقعده بسهولة كبيرة في منظمة الاتحاد الإفريقي في مطلع العام 2017، بعد غياب دام أزيد من ثلاثة عقود. فأصبحت بلادنا واحدة من الدول المحورية والقائدة للقارة السمراء، بفضل استثمار أرصدة متنوعة كالجوانب الاقتصادية، والروحية، ومعالجة إشكالية الهجرة.
رافقت الديناميكية الدبلوماسية التي شهدتها فترة ما قبل العودة المغربية للحضن الإفريقي، دبلوماسية أخرى موازية على المستوى الاقتصادي، حيث بادر المغرب إلى إطلاق جملة من المشاريع الاستثمارية في عديد من الدول الإفريقية. استطاع بفضلها اختراق معسكر الدول الأنجلو–سكسونية القوي والمعادي، حيث قاد هذه الحملة الملك محمد السادس شخصيا. وهو ما نتج عنه حصول شرخ صف المحور الثلاثي المعادي، باستقطاب دولة نيجيريا التي أبرم معها صفقتين تاريخيتين (مصنع عملاق للأسمدة الفوسفاطية وأنبوب نقل الغاز من نيجيريا إلى أوروبا).
وفي أعقاب ذلك تبلور حلم الانضمام إلى أكبر تجمع اقتصادي بغرب إفريقيا، مجموعة إيكواس (سيدياو) المكونة من 15 دولة، الذي ما زالت بلادنا تشتغل لتحقيقه على نار هادئة…
تحالف براغماتي مع إسرائيل
يقول المفكر المغربي عبد الله العروي إن المغرب جزيرة وعلى سكانه أن يتصرفوا على هذا الأساس. يقصد العروي بهذا الوصف طبعا أن الموقع الجغرافي لبلادنا في ضوء وجود تهديدات تتربص بها من كل الجهات، جعلها أقرب ما تكون إلى جزيرة محاصرة. فشمالا الاحتلال الإسباني، الذي سبق أن أكدت أزمة جزيرة ليلى (صيف 2002) أن الحرب معه تبقى واردة في أي وقت، لا فحسب بسبب احتلاله لمدينتينا والجزر المتوسطية، بل وأيضا للخلافات الكبيرة حول حدودنا البحرية مع مدريد في المتوسط وجنوب الأطلسي. وشرقا هناك “العدو الكلاسيكي”، بتعبير رئيس أركان الجيش الجزائري الحالي، الذي لا يتوقف عن التهديد بشن حرب مباشرة على بلادنا وبالوكالة عن طريق أداته الانفصالية. وتكمن التهديدات من حدودنا الجنوبية، من احتمال اختراقها من قبل قوات انفصالية مسلحة أو مجموعات إرهابية. سيما أن موريتانيا التي تربطنا بمنطقة الساحل والصحراء هي دولة صحراوية شاسعة، بتعداد سكاني قليل وجيش متواضع. وغربا تمتد الواجهة الأطلسية المفتوحة على المجهول، الذي يمكن أن تأتينا منه كل الأخطار.
ويزيد هذا التحليل تشاؤما تهافت قوى أجنبية بعيدة عن المنطقة، من قبيل روسيا في مالي وإيران في الجزائر. ما يفرض على المغرب إعادة رسم تحالفاته السياسية والعسكرية والاقتصادية، وفق منظور براغماتي ذكي. وفي هذا الإطار، وجب التذكير مرة أخرى بأن المغرب ‒عكس باقي الدول “المطبعة” الأخرى‒ لديه وضع خاص، يتمثل في وجود جالية كبيرة من مواطنيه ذوي الديانة اليهودية في إسرائيل وكندا وأوروبا والولايات المتحدة.
من منظور براغماتي، فإن إنشاء قنوات اتصال أفضل مع إسرائيل، من خلال ربط علاقات عادية معها، يصب في اتجاه تعزيز علاقات أقوى مع جاليتنا ذات الأصول المغربية بإسرائيل، التي تشكل فئة مهمة من المجتمع الإسرائيلي. ويشغل بعض نخبها مناصب عليا في دوائر القرار في الدولة العبرية، ستمكن المغرب من أن يكون في وضع جيواستراتيجي أقوى وأفضل بكثير.
إن إسرائيل دولة رائدة عالميا في البحث العلمي في مجالات الفلاحة ومعالجة مشاكل شح المياه، وأمن الأنترنت، والأسلحة المتطورة، وغيرها. وبالنظر إلى الاعتبارات السابق ذكرها، من مصلحة المغرب الملحة الاستفادة من قدراتها، في مجالات التكنولوجيا العسكرية والمدنية المتطورة، والسياحة، والصناعة، والزراعة، للمساعدة في حماية ترابه حالا ومستقبلا، وتعزيز جهوده للتنمية.
وفي ذلك، للمغرب طبعا حساباته ولإسرائيل حساباتها، التي لا يسمح ضيق المقام بتفصيلها. لكن بالنسبة إلى التعاون العسكري بين الرباط وتل أبيب، الذي أثار مخاوف حتى بعض الأطراف الأوروبية، وجب التذكير بأنه يعتبر امتدادا للتعاون المغربي الأمريكي…
 
 

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي