عائشة الشنا.. رحيل امرأة حملت على أكتافها جراح النساء

 

أنزلت الشراع وتوقفت عن التجديف نهائيا، في الخامس والعشرين من سبتمبر، توقف بذلك مشوار النضال الطويل في يوم أحد حزين في تاريخ الجسم الجمعوي المغربي، الذي فقد أيقونة نسائية ناضلت طويلا من أجل حقوق النساء في وضعية صعبة… إنها عائشة الشنا أو “ماما عيشة” التي كانت الملجأ والحضن الدافئ والحنون للنساء العازبات وأطفالهن، منحتهن كل الرعاية اللازمة، وكانت الجسر الذي ربطهن بالحياة مجددا وأعاد لهن الأمل.

ولدت صاحبة القلب المسلم والعقل العلماني، كما وصفت نفسها ذات يوم، في 14 غشت 1941، العمل الجمعوي والنضالي منذ حصولها على دبلوم التمريض سنة 1960 ، إذ تسلحت به وهي ابنة 17 سنة لتشق عباب العمل الجمعوي، حيث كانت البداية في جمعية حماية الطفولة والعصبة المغربية لمحاربة السل، ثم انتسبت الراحلة للعديد من الجمعيات قبل أن تمكنها التجربة التي اكتسبتها عبر مخالطة المرضى والنساء من تأسيس جمعية “التضامن النسوي” سنة 1985، وكان هدفها الأول تقديم الدعم النفسي، القانوني والاقتصادي للنساء العازبات وضحايا الاغتصاب، ومساعدتهن على الاندماج وسط المجتمع، حيث أصبحت صوت من لا صوت لهن، ودافعت عن أبناء هذه الشريحة من النساء المتخلى عنهن أو اللواتي تعرضن للاغتصاب، واعتبرتهم جميعا  أطفالها ووقفت في وجه كل من اعتبرها تدافع عن الزنا وعن أطفال غير شرعيين، معتبرة أنهم لا ذنب لهم، بل ونجحت في جعل بعض الآباء يعترفون بأبوتهم، فيما اختار البعض الآخر الزواج والاعتراف بالأبوة معا..

لذلك، فلا عجب أن يكون رحيل عائشة الشنا خسارة فادحة للنسيج الجمعوي، والنسائي على وجه الخصوص، هي التي كانت سدا منيعا للنساء وأطفالهن، بحيث أخرجت ملفهن من دائرة الطابوهات، غير مبالية بالاتهامات التي انهالت عليها من هنا وهناك، من الطبقة المحافظة والمجتمع الذكوري، لأن هدفها كان أسمى وأرفع من هذه الانتقادات، إذ كان عليها الكفاح من أجل توفير حياة كريمة للنساء وأطفالهن، وسط ضعف الترسانة القانونية ونظرة المجتمع القاسية التي لا ترحم.

جهود عائشة الشنا في جمعية “التضامن النسوي” والمجهودات الجبارة التي قدمتها للنساء المتخلى عنهن والمغتصبات، وصلت أصدائها لكل العالم، فتم تتويجها بالعديد من الجوائز لعل أهمها جائزة حقوق الإنسان بباريس سنة 1995، جائزة إليزابين نوركال بفرانكفورت سنة 2005 ثم جائزة أوبيس الأمريكية سنة 2009.

عائشة الشنا، وعلى العكس من كل ما روجه البعض من منتقديها، لم تكن يوما من المدافعات عن العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، بل على العكس من ذلك، كانت دائمة التحذير من خطورتها وآثارها السلبية على الأطفال الذين يعتبرهم المجتمع غير شرعيين، لهذا فإن دفاعها عن الأطفال المتخلى عنهم هو تحصيل حاصل… فكيف يمكن أن نتجاهل أطفالا ونقصيهم وهم لا ذنب لهم سوى أنهم جاؤوا للحياة بدون رغبتهم حتى ؟ لهذا فعائشة الشنا كافحت من أجل احتضانهم ودمجهم في النسيج المجتمعي لأن الإقصاء ليس حلا، هذه هي فلسفة عائشة الشنا والتي جعلتها أما لجميع الأطفال المتخلى عنهم، بحيث شكل رحيلها خسارة كبيرة لهؤلاء الأطفال وأمهاتهن .

لقد رحلت عائشة الشنا مخلفة وراءها مكتسبات للنساء وأصوات لابد أن تقتفي أثر هذه المرأة الاستثنائية، التي كافحت من أجل تغيير العديد من النصوص القانونية، من أجل انصاف أكبر للنساء، لكنها رحلت قبل أن تكمل الورش الاجتماعي والقانوني الكبير، إذ لازالت النساء تنتظرن، ومعهن الجسم الجمعوي، الكثير من التفعيل والتغيير لمجموعة من القوانين، لعل أهمها تفعيل تقنية الحمض النووي، كما يحدث في جميع الجرائم، من أجل إثبات هوية أب الطفل المولود خارج إطار الزواج .

لقد رحلت أم النساء العازبات وفي حلقها غصة كبيرة من ضعف الترسانة القانونية وفشلها في حماية شريحة مهمة من النساء وأطفالهن، لكنها مع ذلك تركت ورشا مهما يحتاج لإرادة نسائية من أجل استكماله وتحقيق الأهداف التي حلمت بها عائشة الشنا، من أجل عدالة اجتماعية وقانونية.

“ماما عيشة”، كما تناديها النساء اللواتي يلجأن للجمعية، كان لها السبق أيضا في تقديم برامج تلفزيونية وإذاعية، في السبعينات، تهتم بصحة المرأة ونشر الوعي الصحي، حيث لم تدخر جهدا في تنوير المرأة المغربية… لكن ما حدث ذات يوم من سنة 1981 كان له عظيم الأثر على مسيرة عائشة الشنا الجمعوية والنضالية، حيث كانت يومها تمارس وظيفتها كممرضة مسجلة بوزارة الصحة، فاسترعت انتباهها فتاة قروية صغيرة، تحمل بين يديها رضيعا وتدخل مكتب المساعدة الاجتماعية… كانت الفتاة تريد التخلي عن الرضيع لوزارة الصحة وهو الشيء الذي كان جاري به العمل آنذاك… منظر الطفل وهو يبكي بينما الأم الصغيرة تبصم على ورقة التخلي وتبعده عنها، كان مشهدا مؤثرا بالنسبة لعائشة الشنا الممرضة آنذاك، التي لم تنم يومها وأقسمت على وضع حد لهذا الظلم الاجتماعي، فكان تأسيس جمعية “التضامن النسوي” بالدار البيضاء هو الترجمة الفعلية لهذا القسم، بعد أربع سنوات قضتها في البحث والتتبع والمساعدة الصحية من خلال عملها كممرضة .

اليوم، وبعد وفاتها يمكننا أن نشعر جميعا بحجم ما فقدناه برحيلها، لقد كانت امرأة بألف رجل، وقفت صامدة وسط المد الذكوري لتدافع عن قضايا لم يكن أحدا يتجرا قبلها على الخوض فيها، ولهذا حاربها البعض وانتقد آخرون مشروعها النضالي، زاعمين أنها تشجع على الفساد والزنا …تقول عائشة الشنا في تصريحات سابقة : ” تلقيت الكثير من الانتقادات، لكن ما يحز في النفس أن هذا الكلام صادر عن أناس مرموقين ومثقفين، يرون ما أقوم به تشجيعا على الفساد ”

لم يتوقف الأمر على الانتقادات، فقد تلقت الراحلة الكثير من التهديدات، حسب تصريحات سابقة لها، إلا أن ذلك لم يثنيها عن مواصلة رسالتها التي إستمرت فيها حتى النفس الأخير، فكانت امرأة لا يمكن أن ينساها تاريخ المغرب الجمعوي والنضالي ..فلترقد روحك بسلام يا امرأة حملت على أكتافها جراح النساء في زمن لا يرحم.

 

 

 

كلمات دلالية
شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي