فتح الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 69 لثورة الملك والشعب الباب أمام تغييرات واسعة في التدبير المؤسساتي لملف الجالية المغربية بالخارج، بعدما دعا الملك إلى تحديث وتأهيل الإطار المؤسسي الخاص بهذه الفئة، و”إعادة النظر في نموذج الحكامة، الخاص بالمؤسسات الموجودة، قصد الرفع من نجاعتها وتكاملها”.
ووضعت توجيهات الخطاب الملكي الفاعل الحكومي والمؤسسي المعني بشكل مباشر بملف الجالية المغربية بالخارج أمام خارطة ترتكز على ثلاثة عناصر أساسية:
أولا: مرتكز تشريعي يهم الوضع القانوني المؤطر لعمل المؤسسات المكلفة بملف الجالية المغربية بالخارج، وهنا الحديث أساسا عن مجلس الجالية المغربية بالخارج ومؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج. لذلك، ستكون الحكومة مطالبة ببلورة مشاريع قوانين تساهم في مواكبة التطور المؤسساتي الذي جاء به دستور 2011، بما يرتقي إلى تطلعات جالياتنا.
ثانيا: إعادة النظر في الهيكلة الحكومية الحالية، من خلال إسناد ملف الجالية المغربية بالخارج إلى قطاع حكومي بصلاحيات كاملة، ووضع حد للتخبط الذي يعرفه تدبير الملف منذ سنوات عدة، تارة بإسناده إلى وزارة كاملة الصلاحيات، وتارة بخلق وزارة منتدبة، وفي محطات أخرى بخلق كتابة للدولة، قبل أن يتم الاستغناء عن أي من هذه الهياكل في الهيكلة الحكومية الحالية.
ثالثا: وضع إطار مؤسسي أو آلية خاصة لمواكبة الكفاءات المغربية بالخارج، كما جاء في النطق الملكي. ذلك أن التدبير الحكومي لهذا الملف بالضبط أثبت فشله الذريع عبر مختلف الحكومات السابقة، بسبب غياب سياسة حكومية واضحة المعالم والآليات لتعبئة هذه الكفاءات، حتى إن بعض البرامج، ومنها برنامج “فينكوم”، لم تستطع أن تحق الأهداف المرجوة منها في الاستفادة من الرأسمال البشري للمغرب بالخارج.
إن هذه المرتكزات الثلاثة تعد مداخل أساسية للإصلاح، والدفع بملف الجالية المغربية بالخارج إلى الأمام، على أساس وجود التزام حكومي واضح من أجل تنفيذ المشاريع التي ستتم بلورتها وتجاوز الفراغ الذي يسم الفعل الحكومي، على مر مختلف التجارب، في التعاطي مع قضايا الجالية المغربية بالخارج، وهو الأمر الذي يمكن الوقوف عنده بشكل واضح عند مطالعة البرامج الحكومي، والتي لا تتجاوز في تعاطيه مع هذا الملف إدراج بعض الإجراءات المحتشمة، دون أن تشكل مجتمعة سياسة عمومية واحدة موجهة لجالياتنا.
إن أول ملف على الحكومة مباشرته هو وضع إطار قانوني جديد يعيد هيكلة مجلس الجالية المغربية بالخارج. فهذه المؤسسة تم الارتقاء بها سنة إلى 2011 إلى مؤسسة دستورية حيث ينصل الفصل 163 على أن المجلس يتولى على الخصوص، “إبداء آرائه حول توجهات السياسات العمومية التي تمكن المغاربة المقيمين بالخارج من تأمين الحفاظ على علاقات متينة مع هويتهم المغربية، وضمان حقوقهم وصيانة مصالحهم، وكذا المساهمة في التنمية البشرية والمستدامة في وطنهم المغرب وتقدمه”.
هذه الاختصاصات التي أسندها الدستور إلى المؤسسة لم تتم مواكبتها من طرف الفاعل الحكومي، بالرغم من النداءات المتكررة لمسؤولي المجلس وعلى رأسهم أمينه العام عبد الله بوصوف، الذي لطالما دعا الحكومة السابقة في مراسلات رسمية إلى ضرورة وضع إطار قانوني جديد للمجلس، بما يسمح بتجديد هياكله المؤسسية ويؤهله للتفاعل أكثر مع مستجدات أوضاع المغاربة المقيمين بالخارج.
ورغم ذلك، فإن المؤسسة بصمت على فعالية كبيرة في تقييم الأداء العمومي الخاص بالجالية المغربية بالخارج من خلال سلسلة من الدراسات والاستشارات التي وضعت أمام الجهاز التنفيذي وكل من يهمه أمر مغاربة العالم، في مختلف المجالات التي تخص جاليتنا من الدين والثقافة والسياسة والاقتصاد والأحوال الشخصية والرياضة وغيرها من الملفات التي أظهرت تعقد واختلاف سياقات عيش المواطن المغربي بالخارج، مع ما يفرضه ذلك من يقظة وتعبئة دائمتين.
لذلك، فإن مطلب إعادة هيكلة المجلس يبقى مدخلا أساسيا لتتبوأ هذه المؤسسة المكانة التي خصها بها الدستور المغربي. وهنا لابد من الإشارة إلى بعض التحليلات التي خرجت مباشرة بعد الخطاب الملكي، والتي ذهب بعضها إلى القول بأن الإشارات الملكية تمهد الطريق لحل هذه المؤسسة. وبغض النظر عن استحالة تحقق هذه الفرضية، ما دمنا أمام مؤسسة دستورية، فإن واقع عمل المجلس وطبيعة الملفات التي يباشرها لفهم واقع الهجرة المغربية بالخارج، يجعل وجود هذه المؤسسة ضرورة ملحة بالنسبة للفاعل الحكومي، والدولة بصفة عامة، باعتبار دورها وقربها من القضايا التي تشغل بال المهاجر المغربي.
لكن ماذا بعد إعادة هيكلة المجلس وتقوية اختصاصاته وعلاقته بالحكومة؟ أولا، سيكون من العبث النظر إلى هذه المؤسسة كمدخل للعضوية والحصول على “الصفات” التي يتم التهافت عليها. فالمؤسسة في نهاية المطاف استشارية بطبعها، والنضال الذي يفترض أن يتم هو ضمان عضوية الكفاءات المغربية في الخارج في مختلف المؤسسات العمومية في البلاد، وفتح الباب أمام العضوية في المؤسسات التمثيلية، ومنها مجلس المستشارين في خطوة أولى لإنضاج شروط التمثيلية بمجلس النواب.
ومن أجل الوصول إلى تحقيق هذه الغايات، سيكون من الضروري إعادة النظر في الهيكلية الحكومية من أجل إسناد الاختصاصات الخاصة بتدبير شؤون الجالية المغربية بالخارج إلى قطاع حكومي مستقل بهياكله، بدل تذويبه في وزارة الخارجية كما وقع خلال الولاية الحكومية الحالية، أو حتى عندما كان وزارة منتدبة بدون اختصاصات حقيقية. هذا دون أن نغفل مدخلا أساسيا ولا غنى عنه في تحقيق تطلعات جاليتنا، وهو وجود سياسة عمومية حقيقية برهانات وأهداف واضحة، وتدابير واقعية يتم الاشتغال عنها بشكل استراتيجي، بدل الاستمرار في إجراءات لا تحقق النجاعة المطلوبة والالتقائية الضرورية في عمل مختلف أجهزة الدولة التي تساهم عن قريب أو بعيد في ملف الجالية المغربية.
هذه السياسة العمومية يبنغي أن تنكب، وبشكل ملح ومستعجل، على قضية تعبئة الكفاءات المغربية بالخارج. فالمغرب يتوفر على آلاف الخبراء في مختلف المجالات، والذي بإمكانهم أن يساهموا في تنمية البلاد من خلال نقل الخبر والتجارب ولما لا الاستثمار في وطنهم الأم، شريطة وجود وضع محفز وإطار واضح لهذه المساهمة، وهو الأمر الذي لن يتحقق إلا بوجود آلية خاصة لمواكبة هذه الكفاءات كما دعا إلى ذلك الخطاب الملكي، مع الإشارة إلى مبادرة سبق أن طرحها قبل سنوات الأمين العام لمجلس الجالية المغربية بالخارج، والداعية إلى إحداث وكالة وطنية لتعبئة وحركية الكفاءات المغربية بالخارج.
تعليقات ( 0 )