حين خرج البنك الدولي بتقرير يؤكد فيه أن التعليم العمومي بحاجة لمعجزة من أجل إنقاذه ، فان هذا البنك السيء السمعة، قال فقط جزءا صغيرا من الحقيقة التي لسنا بحاجة للغير من أجل سماعها والاقتناع بها.
حقيقة أن مدرستنا العمومية كانت ولازالت ضحية لسياسة ملتبسة، ومرتبكة خلقت لنا عن قصد تعليما بدون هوية أو ملامح، وزادت من نكبة هذا القطاع الذي زالت الدولة تتعامل معه بحساسية سياسية، و بتوجس تجاوز خلق”جيل جديد من الضباع” على حد تعبير السوسيولوجي الراحل محمد جسوس إلى إنتاج “الانحطاط” باعتراف وزير التربية الوطنية السابق.
لهذا السبب فإن التقرير الذي قدمه الجواهري أمام الملك لم يكن صادما حين أكد ومن جديد أن التعليم بالمغرب يغرق في متاهة لا نهاية لها، وأن جميع الخطط والمشاريع والملايير التي ترصد لذلك تغرق في العبث والارتجال والتردد.
اليوم ليس هناك أدنى شك في أن التعليم العمومي يواصل انهياره السريع لصالح لوبيات التعليم الخاص التي تعززت وتقوت بولوج الوزراء والبرلمانيين وعدد من اصحاب الشكارة، وذوي النفوذ إلى لائحة من وضعوا سلتهم تحت هذه الدجاجة التي تبيض ذهبا، وتصنع ثروة سريعة من جيوب المغاربة الذين يعتبرون ولأسباب جد موضوعية، أن ضمان تعليم جيد، وآمن لأبنائهم هو طوق نجاة قد لا يوجد بمدرسة عمومية صار الجميع يهرب بمن فيهم الوزراء الذين يشرفون عليها.
تقارير سوداء وتحقيق دون متهمين
لقد ساد الاعتقاد بان انكشاف جزء من الفضائح الخطيرة التي رافقت تدبير صفقات البرامج الاستعجالي الذي كلفنا 34 مليار درهم سيكون محطة فاصلة من اجل القطع مع الفساد وطي صفحة الوجوه التي عمرت طويلا بالوزارة، وتكلفت بجر المدرسة العمومية نحو الإفلاس، كما انتظر الجميع الكشف عن نتائج التحقيقات التي أجرتها الفرقة الوطنية للشرطة القضائية ومتابعة من تلاعبوا بحق ابناء المغاربة في تعليم جيد من خلال بيع وهم “مدرسة النجاح”.
لا شيء من هذا حصل ،بل العكس، انخرطت نفس الفرقة التي كشف تقرير المجلس الأعلى للحسابات أن بضعها لا يزال يتقاضى تعويضات عن البرنامج من خلال تربعه على رأس مديريات وهمية في مسلسل مشابه سيكلف المغاربة عشرات الملايير من خلال طبخ صفقات جديدة، وبنفس المبرر، أي إنقاذ المدرسة العمومية التي تحتاج بالأساس إلى من ينقدها من “كتيبة الفاشلين”بعد أن أكد ذات التقرير مسؤولية الكاتب العام للوزراة وعدد من المدراء المركزيين في الكوارث التي انتهى إليها البرنامج الاستعجالي، والذي تحولت إلى أداة للتراشق السياسي بين الحكومات تحت قبة البرلمان عوض التحلي بالشجاعة لكشفهم والدفع في اتجاه محاسبتهم.
الغريب أن هذا البرنامج الذي قيل أنه سينقذ المدرسة هو الذي انتهى بنا بمعدات مغشوشة تم اقتنائها بعشرات الملايير، وخلف لنا أقساما وطاولات متهالكة، كما جعل أزيد من 58 تلميذ وتلميذة يحشرون في الفصل الواحد، بعد أن تهافت الجميع على تفصيل صفقاته بشكل يضمن لهم الكتف والمرق.
كما تم وعن عمد إغفال الخصاص الكبير في عدد المدرسين والمدرسات، ما جعل الاكتضاظ يتعاظم، ويصل إلى نسبة خطيرة فضلت الوزارة أن تزيد من استفحالها من خلال فتح الباب مشرعا أمام التقاعد النسبي قبل أن يتضح لاحقا الهدف من وراء ذلك.
100 مليار مقابل فقاعة
ولأن من يزرع الريح يحصد العاصفة فقد تبين اليوم ، أن التعاقد الذي روجت له الحكومات كحل سحري من أجل مواجهة الاكتظاظ، والخصاص، كان مخططا له من قبل، في ضل توجه ينبني على تعليمات البنك الدولي الذي طبق نفس الوصفة في دول أخرى.
النتيجة أن التعليم العمومي وقبل أن يلتقط أنفاسه من فضائح البرنامج الاستعجالي غرق في سلسلة من الازمات والفضائح المتتالية التي فضل البعض دفنها وهي حية تماما كما حصل في ملف التعليم الرقمي الذي كان لفيروس كورونا فضل كبير في كشف مصير100 مليار سنتيم التي صرفت في عشرات الصفقات المرتبطة به، وذلك بعد أن جرب المجلس الأعلى فعل ذلك دون ان ينجح في تخليص القطاع من غياب الحكامة.
فقبل أن تفرج الفرقة الوطنية للشرطة القضائية عن نتائج التحقيق في البرنامج الاستعجالي لإصلاح التعليم الذي كلف 3700 مليار سنتيم، أطلت مع اعتماد التعليم عن بعد فضيحة جديدة عنوانها “التعليم الرقمي” الذي كلف 100 مليار سنتيم، مقابل 600 درس رقمي، و40 ألف حاسوب تحول إلى خردة مع معدات معلوماتية أخرى.
غسيل”برنامج جيني” تم نشر جزء كبير منه في تقرير ثقيل للمجلس الاعلى للحسابات، وهو بالمناسبة ليس مكتب دراسات أو استشارات، بل أعلى هيئة رقابية بالبلد.
كما أن رئيس الحكومة السابق أقر بفشل هذا البرنامج، لكن الوزير امزازي كان له رأي آخر بعد أن مسح، ودفعة واحدة، الشبهات الكثيرة التي تحوم حول صفقاته، و الاختلالات الكثيرة التي رافقته من خلال الحديث عن اقتناء عشرات الآلاف من المعدات المعلوماتية التي لا ندري فعلا مصيرها النهائي، في ضل وجود المئات من القاعات المغلقة بالمؤسسات التعليمية، وآلاف التجهيزات التي تحولت لمتلاشيات.
في سنة 2004 تم تشكيل فريق عمل مكون من وزار التربية الوطنية والوكالة الوطنية لتقنين المواصلات بهدف إعداد إستراتيجية لتعميم تكنولوجيا المعلومات والاتصال على مؤسسات التعليم العمومي،وبعدها توالت عدة مخططات ومشاريع رفعت تحدي تطوير المحتوى الرقمي وتطوير ومواكبة استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصال في مؤسسات التعليم العمومي.
هذه المشاريع تم التعامل معها بمنطق “الهمزة” بعد أن رصد تقرير للمجلس الأعلى للحسابات أن الاختلالات رافقتها مند انطلاقتها ،بعد أن تم في الفترة الممتدة ما بين 2006 و2008 تجهيز 2534 قاعة متعددة الوسائط بالحواسيب عبر اقتناء المعدات من متعهدي خدمات القطاع الخاص غير الفاعلين المحليين في قطاع الاتصالات،في حين تم التعاقد مع شركات الاتصالات الثلاث لتوصيلها بخدمة الانترنت في إطار صفقات انتهت
بهذه المعدات والبرامج التي كلفت ميزانية الدولة مليارات السنتيمات الى متلاشيات،وخردة، ضلت دون استغلال.
تقرير المجلس الأعلى للحسابات وقف عند الاختلالات المرتبطة بانعدام الربط، وضعف الحوامل الرقمية، ومشكل الصيانة الذي تبرأ منه الجميع بدعوى أن الصفقة تكلفت بها جهة خارج الوزارة، إضافة إلى مشكل التكوين الذي جعل العديد من الأطر داخل المؤسسات يتملصون من مسؤولية وتداعيات هذا البرنامج لتبقى آلاف القاعات مغلقة دون استغلال.
وكان المجلس الأعلى للحسابات قد اصدر في سنة 2014 تقريرا نبه فيه إلى الاختلالات والنواقص التي تشوب برنامج جيني الذي يهدف لتعميم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، مشيرا إلى انه و”بعد تسع سنوات من انطلاقه لم يتجاوز استخدام التلاميذ للوسائل المعلوماتية 18 دقيقة في الأسبوع.
كما رصد التقرير عدم تمكن الأساتذة من إدماج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في التعليم والتعلم،وهو الأمر الذي تفاقم بسبب طبيعة تجهيز المؤسسات التعليمية،التي بقيت رهينة معدات وحواسيب متقادمة ليسجل قطاع التعليم فضيحة جديدة كلف حوالي 100 مليار سنتيم.
اليوم هناك قناعة راسخة لدى شريحة واسعة من المغاربة بأنه لا يمكن لحكومة معظم أبناء وزرائها يدرسون في القطاع الخاص وبالبعثات أن يجدوا حلا للتعليم العمومي، أو أن يؤسسوا لإصلاح يمكن من استرجاع الثقة المفقودة فيه،وهو إشكال خطير يتفاقم مع الوزير بنموسى الذي اتضح أنه لا يملك أي خارطة طريق ويتجه لهدر الوقت فقط بعد ان وضع القانون الإطار جانبا، هذا طبعا مع توفير مناخ مناسب لانتاج جيل جديد من الفضائح المالية الجديدة.
هذا الجواب يفسر الابتسامة التي لاذ بها سلفه رشيد بلمختار حين سألناه ذات يوم عن الجهة التي يجب أن تتحمل المسؤولية السياسية في كل مرة تفشل فيها المشاريع المعطوبة التي اختلطت فيها وزراء الأحزاب والتقنوقراط ،أو تتخذ فيها قرارات طارئة وارتجالية عن سبق إصرار وترصد لجر التعليم نحو المزيد من الكوارث التي لا يبدو أن نهايتها قريبة.
تعليقات ( 0 )