الارتفاع المهول في أعداد الهجرة الجماعية التي عرفتها أوروبا خلال سنتيْ 2014 و2015 والتي تجاوزت رقم “مليون” من المهاجرين وطالبي اللجوء هربا من الأوضاع الساخنة في دول الشرق الأوسط ( العراق وسوريا ..) وبعض دول آسيا ( أفغانستان والبنغلاديش..)، بالإضافة إلى أعداد غير محدودة من القوارب في اتجاه الضفة الشمالية للبحر المتوسط انطلاقا من سواحل ليبيا وتونس والجزائر.. أدت إلى ما يُعرف في حينها بأزمة البواخر بين المنظمات الإنسانية وبعض الدول الأوروبية كإيطاليا وفرنسا واسبانيا.. حيث طالبت هذه الدول باقتسام المهاجرين مع دول الشمال الأوروبي نظرا للأعداد غير المنتظرة، الشيء الذي جعل أوروبا تقف على عدم فعالية قوانينها في الهجرة واللجوء وخاصة قانون دُبْلن.. الذي يربط مستقبل المهاجرين وطالبي اللجوء بأول دولة وُصُول…
فالضغط الكبير لأعداد المهاجرين وعدم استعداد بعض الدول الأوروبية لاستقبالهم أمام غياب آلية قانونية ومساطر إدارية سريعة تستوعب هذه الهجرة الجماعية.. جعلت الكلمة الفصل ” للقانون الإنساني ” بالسماح لهم بالمرور وتسوية الأوضاع سواء كمهاجرين أو كلاجئين أو كطالبي للحماية.. خاصة “بألمانيا ميركل “، وذلك في انتظار تسريع وثيرة عمل آلة التشريع الأوروبي بخصوص قوانين الهجرة واللجوء سواء في جانب سياسات تسوية أوضاع الغير القانونيين من المهاجرين او في عملية خلق قوانين جديدة للهجرة واللجوء داخل فضاء دول الاتحاد الأوروبي بتصور جديد يكون أهم مبادئه المسؤولية والتضامن.. خاصة وأن الهجرة واستقبال المهاجرين الغير النظاميين ليس بالعملية السهلة فهي تعني عملا إضافيا على الحدود خاصة في الشق الأمني والعمل على تحديث وتطوير “وكالة الفرونتكس” المكلفة بحماية ومراقبة الحدود والسواحل الأوروبية…وهو ما يعني ” كلفة مالية ” كبيرة تثقل بلدان المرور والاستقبال معا…
ولسوء الطالع فقد عرفت أوروبا وابتداء من سنة 2015 ارتفاعا في عدد الضربات الإرهابية في كل من فرنسا وبلجيكا والمانيا واسبانيا.. وهو ما كان له ” كُلفة سياسية ” حيث استغلت أحزاب اليمين المتطرف هذا الحادث لتأجيج الشارع الأوروبي ضد حكومات بلدانهم، كما تم توظيف ملف المهاجرين في الانتخابات التشريعية والبرلمان الأوروبي وهو ما مهد الطريق لأحزاب اليمين المتطرف للامتداد المجتمعي في كل من المانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا وهنغاريا وإسبانيا.. خاصة وأن أغلب مهاجري سنة 2015 قادمون من بلدان إسلامية..
وبلغة الأرقام التي تقلصت مقارنة مع سنتي 2014و 2015وذلك تزامنا مع انخفاض درجة الخطر وحدة الصراع في كل من سوريا وليبيا والسودان… بمعنى انه كلما ارتفعت الصراعات والحروب والتقلبات المناخية كالفيضانات والزلازل والتصحر والجفاف.. كلما ارتفعت موجات الهجرة وطلب اللجوء والبحث عن مكان آمن ومستقبل أفضل..
وستعرف عمليات الهجرة القانونية أو الغير القانونية توقفا مع تدابير جائحة كورونــا حيث ستحد تدابير إغلاق الحدود من عمليات التنقل مخافة نقل العدوى.. إلى أن تتقدم اللجنة الأوروبية في شتنبر من سنة 2020 بمقترح حول “الاتفاق الجديد حول الهجرة واللجوء” وهو عبارة عن قراءة جديدة ” لقانون دبلن للهجرة واللجوء ” يتضمن إجابات على الميكانيزمات الحديثة لواقع الهجرة واللجوء، كما يعترف بالمسؤولية المشتركة وبالتضامن بين دول الاتحاد الأوروبي في ارتدادات ملف الهجرة واللجوء على مستوى الكلفة المالية والاقتصادية والسياسية وأيضا الثقافية…
وقد راج بين العديد من المراقبين ان الرئاسة الدورية لفرنسا للاتحاد الأوروبي سنة 2022ساهمت كثيرا بالدفع بالمصادقة على اقتراح اللجنة الأوروبية.. لكن يبدو أن موجة الهجرة الجماعية الجديدة على خلفية الحرب على أوكرانيا منذ فبراير 2022 انتجت ظروفا جديدة لا تشبه ظروف موجة سنة 2015.. لا من حيث العدد ولا من حيث طبيعة دولة الهجرة…
فالأرقام تحدثنا عن حوالي 6,8 مليون لاجئ أوكراني معظمهم من النساء والأطفال غادروا في اتجاه دول الجوار كبولونيا اكثر من 3ملايين مهاجر اوكراني ورومانيا (989 ألفا) وهنغاريا (682ألفا) ومولدافيا ( 479 ألفا) وسلوفاكيا( 461 ألفا ) فيما وصلت أعداد كبيرة إلى دول أوروبية أخرى كألمانيا وإيطاليا والنمسا وفرنسا…
و قد لوحظ غياب حملات اليمين المتطرف الأوروبي ضد الموجة المليونية من المهاجرين ولم يتم توظيفها سياسيا خلال انتخابات الرئاسية او التشريعية بفرنسا أو الجهوية بإسبانيا.. أكثر من هذا فقد تم توظيف عنصر الدين والعرق بشكل عنصري بشع والترحيب باللاجئين الاوكرانيين داخل دول الاتحاد الأوروبي لأنهم مسيحيون وعيونهم زرقاء…في حين تم التضييق على اللاجئين من أصول أجنبية كانوا مقيمين أو طلبة بأوكرانيا ومنع الكثير منهم بالعبور الى أماكن آمنة..
من جانب آخر فالحرب على أوكرانيا لم تجعل من هذا الأخيرة مصدرا وحيدا للهجرة الجماعية.. بل امتدت تداعياتها الى دول افريقيا تضررت بندرة الحبوب والتلويح بموجة مجاعة في بلدان افريقيا عديدة تقسو عليها الطبيعة بالجفاف والتصحر.. وهو ما يهدد بهجرات جماعية قادمة نحو البلدان الأوروبية مرورا ببلدان الضفة الجنوبية للبحر المتوسط… وهو ما يعني توقع الضغط على محاور العبور الافريقية خاصة مصر وليبيا وتونس والمغرب من جهة، وتوقع تسلل عناصر مجموعات إرهابية معروفة تشتغل في بلدان جنوب الصحراء والساحل، قــد تهدد السلم سواء في دول المرور كالمغرب مثلا او دول الاستقبال من جهة ثانية…. ويكون من نتائج هذا الضغط كلفة مادية ولوجيستيكية باهظة تكلف ميزانيات تلك الدول التي تعاني أصلا من ارتفاع تكلفة الطاقة كأحد تداعيات الحرب في أوكرانيا…
فكل هـذه العوامل تجعل من دول الضفة الجنوبية للبحر المتوسط شريكا أساسيا لأوروبا في صياغة كل سياسات وقوانين الهجرة واللجوء بدول الاتحاد الأوروبي، كما تجعل من المغرب بكل موضوعية وبدون لغو أو مبالغة الناطق باسم افريقيا أمام دول الاتحاد الأوروبي في مجال الهجرة واللجوء.. أولًا باعتراف الدول الافريقية نفسها بدور المغرب وريادته في مجال الهجرة، لذلك اطلقت على الملك محمد السادس ” رائد الاتحاد الافريقي لقضايا الهجرة “، ولاحتضان المغرب لمقر أحد أهم مؤسسات منظمة الاتحاد الافريقي في مجال الهجرة بالعاصمة الرباط ونقصد به ” المرصد الافريقي للهجرة ” الذي تم افتتاحه يوم 18 دجنبر 2020 تزامنا مع اليوم الدولي للمهاجر… وثانيًا بتوقيع “المثياق العالمي للهجرة ” بمدينة مراكش في دجنبر 2018، وهو الميثاق الأممي الذي تبناه ممثلو 150 دولة في العالم من أجل هجرة آمنة ومنظمة ونظامية…
فالمغرب وبكل تراكماته في تدبير ملف الهجرة سواء باعتباره دولة لها مهاجرين بالخارج أغلبهم بدول الاتحاد الأوروبي، او باعتباره بلد مرور واستقبال، ومع ما يتوفر عليه من ترسانة قانونية في تنظيم مجال الهجرة وتدبير حياة المهاجرين على مستويات الشغل والتعليم والصحة… وما يتوفر عليه من رصيد قوي من الثقة سواء على مستوى الأممي أو الاتحاد الأوروبي أو الافريقي يجعل منه بحق رائدا افريقيا في مجال الهجرة ومحاورا ذو ثقة أمام دول الاتحاد الأوروبي لصياغة أجيال جديدة من قوانين الهجرة واللجوء من شأنها جعل البحر المتوسط قنطرة للثقافات والحضارات وتبادل الخبرات وليس مقبرة جماعية للهاربين من الحروب والصراعات والتقلبات المناخية…
تعليقات ( 0 )