قد يختلف مؤرخو الفعل السياسي ببلادنا عن الاختيارات والقرارات، ولكنهم قد يجمعوا على رصانة بنيان مؤسسات سياسية دون غيرها. وحزب الاستقلال ينتمي إلى هذه الفئة التي أزعم أن من بينها أعمدة اليسار رغم التشتت والحركة الشعبية وبشكل أقل حزب التقدم والاشتراكية. أما الحزب الذي يرأس الحكومة فله تاريخه الخاص المبني على استقطاب النخب ولو في الدقائق الأخيرة قبل إجراء المباراة. لا أحد يدري مستقبله السياسي والمؤسساتي ولا يمكن التنبؤ بما سيؤول إليه هذا الحزب في ظل التجربة الصعبة الحالية. أطره التاريخية غابت عن الساحة ولا علم لأحد بإمكانيات صمود نخبه الحالية أمام أزمات متتالية منها ما يتعلق بالقرار الداخلي ومنها ما هو خارجي وخارج السيطرة.
وتظل مكانة حزب الاستقلال خاصة بكل المقاييس. هذه الخصوصية تتشكل من ترابط حلقات النسيج الاجتماعي والعائلي وتأثيرها الكبير على قرار الفرد. قيم “الرضا” و”السخط” لها حمولة ثقافية قد ننعتها بالرجعية بلغة نوع من القيم السياسية. كثير ممن عرفتهم من المنتمين لحزب الاستقلال منذ عقود يرجعون أساس الانتماء للأسرة والعائلة. فمن خرج من الحزب قد يؤول ما أصابه من أعطاب اجتماعية أو مهنية بخروجه عما يعتقد أنه خروج عن طاعة حقيقية أو مفترضة اتجاه مجموعته أو عائلته. هذه الثقافة لا تشرح كل شيء وخصوصا في مجال الولوج إلى عالم التجارة والمال والذي تشكل فيه التوافقات العائلية دورا مهما.
القرار الحزبي داخل البيت الاستقلالي يطبخ على نار هادئة وفي تناغم بين البنيات العصرية ذات الطابع الديمقراطي وتلك البنيات التقليدية التي تضع صيانة البيت الداخلي في قلب الثقافة الحزبية. أكاد لا أشك أن “الاستقلالي” لا يستقيل من حزب الاستقلال ولو بلغ من الكبر عليا. قد يغيب عن الواجهة المؤسساتية لكنه يظل حريصا على البيت وساكنيه. قد تحدث بعض الأعطاب خلال المسير ولكن الرجوع إلى الأصل يدخل في نطاق الحتميات. سطع نجم شباط وتم قبوله ولكنه تجرأ على ثقافة البيت وقيمه فتجرع مرارة الإقصاء من النقابة التي استفادت من نتائج عمله ومن الحزب الذي لم يتمكن من المحافظة على بنياته كلها.
وبارتباط مع ما يشبه الهزة الداخلية التي يشهدها الحزب بعد خلوة لجنته التنفيذية، يمكن القول أن ثقافة وميكانيزمات الحزب كانت في الموعد. قيل أن قرارات أو لنقل توصيات تستهدف تقليص أعضاء برلمان الحزب إلى النصب مع ربط الصفة فيه بالانتخاب. وقيل أن الحزب سيكون له رأسان قد يخلف أحدهما الآخر لسبب من الأسباب. لا يمكن، بالطبع، قراءة نتائج خلوة القيادة في معزل عن قراءة ما حصل لشباط قبل أن تقلب عليه الطاولة ويحاول التشبث بحزب صغير سرعان ما دفعه في اتجاه الأمواج المؤدية إلى شاطئ مهجور.
حزب الاستقلال له عدة أجهزة تتعايش وعلى رأسها جهاز المفتشين. وكلمة مفتش تحمل من المعاني ما يجعلها العين الحارسة الامينة على توازنات الحزب في الأحياء والقرى والمدن. وكعادة المفتش لا بد من رفع تقارير دورية لا تستثني صغيرة ولا كبيرة. ولا يمكن الكلام عن العضوية بالصفة في المجلس الوطني عن مؤسسة المفتش حتى لو كان مفتشا سابقا. أما منصب الأمين العام فقوانينه من “خاصة الخاصة”.
لم يحدث في تاريخ هذا الحزب أن كان أحد أعضاء القيادة ينافس الأمين العام أو حتى أن ينوب عنه. وللتاريخ حاول سي الدويري الأب أن ينافس سي امحمد بوستة فلم يفلح رغم ما كان يحظى به من تقدير. ولا بد من التذكير بما كان يقال أن المرحوم الحسن الثاني كان يخص بكثير من الاهتمام شخص المرشح للأمانة العامة. لكل هذا يظل شأن حزب الاستقلال التنظيمي مسألة صعبة على من لا يتقي شر عدم الانتباه إلى ثقافة موغلة في التوافقات بكل تنوعاتها.
تعليقات ( 0 )