المعطيات الصادمة التي غمرت مواقع التواصل الاجتماعي بعد سؤال عن “السر المهني” أكدت لنا حقيقة أن ثقافة الغش ترسخت و تجذرت.
هذه الثقافة الخطيرة التي أصبح لها أتباع كثر، وجدت أرضا خصبة ، في ظل مجتمع يستسلم لأمثال، وحكم مسمومة تحرض على اختصار المسافة، وتجشع على التدليس، والغش، الذي زحف عل جميع مناحي الحياة من تجارة وسياسة، بل وامتد إلى الكثير من معاملاتنا اليومية في الشارع.
النموذج الحي هي القبضة الحديدية التي تعاملت بها المصالح الأمنية و وزارة التربية الوطنية في التعامل مع الغش بامتحانات البكالوريا، لكن ذلك لم يكن فعالا بعد أن عاينا انتشار فيروس التسريب والغش الذي اتضح أنه أصبح يتمتع بمناعة قوية، وحاضنة مجتمعية.
الغش ليس محصورا في “الحروزة” التي يتسلح بها التلاميذ بل هو موجود في الصفقات العمومية وفي المشاريع العقارية وفي المواد الاستهلاكية وفي الإدارة وخطابات الساسة والأحزاب والمؤسسات، وفي الكثير من مناحي تعاملنا اليومي ما يعني أنه أصبح منظومة قائمة الذات تتعايش جنبا إلى جنب مع الفساد المستشري.
مستويات ثقافة الغش الخطيرة التي وصلنا إليها لا ينبغي أن تختزل وبشكل موسمي، في سلوكات فردية، بل يتعين أن ينظر إليها بشكل هرمي، لأن الاستمرار في تزكية نخب فاسدة في مناصب المسؤولية، واستمرار نهب المال العام دون محاسبة سيخلق أجيال جديدة .
أجيال انتهازية، وبدون وازع أخلاقي، أجيال تسعى لنيل حصتها من الغنيمة، وتؤمن بالنسخة المنقحة للمثل القائل “الله يجعل الغفلة بين البايع والشاري”.
من جهة أخرى لا يجب أن نتظاهر بالصدمة كثيرا ونحن نعاين حقيقة مجتمعنا عارية أمام مرأة سؤال صغير لكنه يختزل واحدا من أهم أعطابنا.
والواقع أن الغش الذي يهدد صحة المغاربة وسلامتهم لا ينتج في الدهاليز، وفي سرية، بل صار علنيا و”على عينك يا بن عدي”.
هنا لابأس من العودة للتحذير الذي بعثت به جامعة حماية المستهلك من خبزنا “الملوث” بالمواد الضارة، وهو تحذير أكد أن موائد المغاربة صارت طريقا سريعا يقود للقبر.
يحدث هذا طبعا في غياب المراقبة التي تجعل المواطنين ضحايا لمنتجات معدلة جينيا ومشبعة بالمبيدات والمواد الكيماوية، والأمر هنا يتجاوز الخبز إلى الخضر والفواكه، و قائمة طويلة من المواد التي لا تخضع للمراقبة في سلسلة الإنتاج والتوزيع.
للإشارة “عين ميكة” هاته ليست بريئة ، بل تستفيد منها قائمة طويلة من السلع والخدمات البضائع المضروبة التي تجاوزت الأغذية إلى الأدوية و الشقق والتعليم والصحة، والتجهيزات المنزلية والتأمينات و المحروقات…
جودة الخبز كانت في أكثر من مناسبة موضوع تحذيرات متتالية، لكن الطرق في جدران خزان هذا القطاع لم يمكن كافيا لإيقاظ الجهات الرقابية المعنية من سباتها.
رقابة تعمل بمنطق “كم من حاجة قضيناها بتركها”، رغم أن الأمر يتعلق بمادة تنتج وتستهلك بالملايين يوميا، والسبب أن لها علاقة مباشرة ليس فقط بالأمن الغذائي، بل وبالسلم والاستقرار الاجتماعي.
ما يحدث من تلاعب بصحة المغاربة سبق وأن كان موضوع تقارير رسمية تم إقبارها، بتحويلها إلى مزايدات سياسية، والنتيجة أننا نواصل رصد ترويج منتجات مغشوشة أو تحتوي على مواد خطيرة بفضل مجهود عصامي لبعض الجمعيات التي تمردت على الصمت المشبوه والمفضوح.
ما يحدث في قطاع الخبز والدقيق يعود بنا أيضا للممارسات الخطيرة التي تتم خاصة في المجال الفلاحي، إما لضمان تطهير المنتوج من الطفيليات، او لتسريع إنضاجه، او تمديد صلاحيته في المخازن عبر استخدام عدد من المواد التي لها تداعيات كارثية على الصحة، وهي أمور تبقى لحد الآن خارج الرقابة والزجر، ما دام تحرك “الاونسا” يأتي دائما متأخرا، وبعد أن يتحول الأمر لفضيحة خارجة عن السيطرة.
صحة المغاربة فيها ما يكفيها من العلل، وواقع مستشفياتنا العمومية لا يسمح بتأزيم الوضع أكثر من خلال إغراق السوق بمواد ملوثة، ومنتهية الصلاحية، او مسرطنة، وغير صالحة للاستهلاك الآدمي.
في ذات السياق سبق للرأي الصادر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أن أكد نفس المعطيات الصادمة التي وقف عندها تقرير سابق للمجلس الأعلى للحسابات.
تقرير كشف أن الغداء الموجه للمغاربة من خضر وفواكه ولحوم يبقى منفلتا من المراقبة رغم احتوائه على عدد من المواد والمكونات الخطيرة.
ذات المجلس كشف “وجود العديد من المؤسسات على الصعيد الوطني التي لا تتوفر على تراخيص صحية لكنها تعرض منتجاتها في الأسواق، معرضة صحة المستهلكين لمخاطر أكيدة وغير متحكم فيها” دون أي تدخل.
كما أعاد المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي التأكيد على أن صحة المغاربة لا تهم مقارنة بصحة المواطنين الأوربيين، وأن عددا من المنتجات تصل لموائد المغاربة وهي تحمل نسبا عالية من المبيدات والمكونات التي تفسر نسب الإصابة المرتفعة بالسرطان.
المجلس وقف على المفارقات بين قطاعات التصدير التي تحترم “المعايير الصارمة للأسواق الدولية لحماية المستهلك الأوربي، وبين السوق الداخلية التي يهيمن عليها القطاع غير المنظم مشيرا إلى أن “بعض مكونات السلسلة الغذائية تبقى غير غير خاضعة للمراقبة “.
الحقائق الصادمة حول ما يستهلكه المغاربة ليست أمرا جديدا بل سبق و تم التنبيه إليها ضمن تقرير قوبل بردود فعل سياسية متشنجة.
ردود اعتبرت أن الإشارة الي الثغرات الكثيرة التي تسمح بإغراق السوق المغربية بمنتجات غير مراقبة، بل وتحتوي على مواد خطيرة، والوقوف عند التقصير الذي يغرق فيه المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية هو استهداف لقطاع، و وزير، و حزب بعينه.
والمفارقة أن الوزير المعني صار اليوم رئيسا للحكومة بعد أن وزرع على المغاربة الكثير من الوعود المغشوشة بمنطق “قيد الباكية” و”عقل على القالب”.
تعليقات ( 0 )