على خلفية أزمة طويلة وحادة مع الجزائر، تتجه القاهرة إلى تطبيع علاقاتها الاقتصادية والسياسية الفاترة مع الرباط. وفي هذا الإطار، تأتي زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري الرسمية للمغرب، يومي 9 و10 مايو الماضيين، حرص خلالها على تأكيد موقف بلاده المعلن في يناير الماضي، المعترف بمغربية الصحراء. كما أكد سامح شكري، أيضا، تأييد بلاده لما جاء في قرارات مجلس الأمن وآخرها القرار رقم 2602 (أكتوبر 2021)، الذي رحب بالجهود المغربية المتسمة بالجدية والمصداقية، والرامية إلى المضي قدما نحو التسوية السياسية لقضية الصحراء.
وقد أجرى الجانبان خلال الزيارة مباحثات معمقة، كما أشرف الوزيران ناصر بوريطة وسامح شكري على تدشين المقر الجديد للسفارة المصرية بالرباط. وكانت مصادر مصرية أكدت بأن زيارة شكري للمغرب، يومي 9 و10 مايو 2022، أتت تلبية لدعوة رسمية وجهها إليه زميله المغربي ناصر بوريطة، تتويجا لاتصالات طويلة ومعمقة استغرقت خمسة شهور بين الطرفين. لكن بعيدا عن لغة الخشب المعتادة في البلاغات والتصريحات الرسمية، ثمة الكثير من القضايا العالقة والطموحات التي تعرض لها الجانبان، في أفق مرحلة جديدة من العلاقات بينهما.
فما هي خلفيات الزيارة؟ ماذا عن توقيتها؟ وما هي الأهداف المتوقعة منها؟
تعزز الزيارة التي قام بها وزير الخارجية المصري سامح شكري للرباط مطلع الأسبوع، انفتاحا مصريا على المنطقة المغاربية، بعد أن ضاق هامش التحرك المصري في المشرق، بسبب تعاظم نفوذ قوى إقليمية أخرى قوية ومنافسة (إسرائيل، تركيا وإيران). كما يأتي تقارب مصر من المغرب في أعقاب تأزم علاقاتها مع الجزائر، بشكل متصاعد خلال الشهور الأخيرة، حول عدد من الملفات في مقدمتها الأزمة الليبية.
سياق إقليمي مضطرب
الواقع أن جذور الأزمة الجزائرية – المصرية متشعبة ومتعددة، يتطلب الخوض فيها جميعا مقالا مستقلا.
ففي فبراير الماضي، تسبب لقاء في قطر بين الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بعبد الحميد الدبيبة، رئيس الحكومة الليبي الذي سحب البرلمان ثقته منه، في إلغاء قمة كان ينتظر أن تجمع تبون بنظيره المصري عبد الفتاح السيسي في الكويت. واتضح لاحقا بأن سبب إلغاء القمة هو غضب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من لقاء الرئيس الجزائري برئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدبيبة في قطر.
لقاء الدبيبة لم يكن السبب الوحيد لغضب السيسي من تبون، بل ينضاف إليه إعلان الجزائر–خلال نفس الشهر– عن تشكيل “مجموعة الأربعة G4″، مع كل من إثيوبيا ونيجيريا وجنوب إفريقيا؛ وذلك على هامش القمة الإفريقية الأوربية ببروكسل. وكان مبرر تشكيلها هو “العمل على حل المشاكل الكبرى التي تواجه القارة السمراء”، في وقت كانت مصر قد دخلت في أزمة حادة مع إثيوبيا، بسبب الخلاف حول تقاسم مياه النيل وسد النهضة.
وعلى الرغم من أن الخطوة الجزائرية كانت تستهدف في الحقيقة، محاصرة تمدد النفوذ المغربي في إفريقيا، إلا أن مصر لم تغفر للجزائر إقصاءها من “التحالف”؛ حيث صرحت مصادر ديبلوماسية مصرية “سرية” حينها، بأن “المساعي الجزائرية المتعلقة بالانخراط في القارة الإفريقية، تأتي في الوقت الذي تحاول فيه القاهرة السيطرة على ملف أزمة سد النهضة ومحاصرة إثيوبيا”. ما دفع القيادة السياسية المصرية أن ترى في تلك الخطوة الجزائرية “استهدافاً مباشرا لها، خصوصا في ظل ضم إثيوبيا للتحالف الجديد من جهة. ومن جهة أخرى أنه لم تتم مخاطبة مصر من جانب الجزائر بشأن الانضمام إليها”.
الأزمة المصرية الجزائرية، نسفت جهودا كبرى كانت قد استثمرتها الجزائر للتقرب من مصر منذ العام الماضي، وترجمت بزيارة قادها الرئيس تبون للقاهرة قبل شهر واحد فقط من اندلاع الأزمة (24 يناير الماضي)، كانت قد خصصت لـ “التشاور حول الملف الليبي ووضع خطة عمل مشتركة للعمل على استقرار ليبيا خلال الفترة المقبلة وإقامة الانتخابات الليبية وخروج المرتزقة”. ينسف الغضب المصري من الجزائر كذلك، سلسلة من الزيارات الماراثونية التي كان قد قام بها وزير الخارجية الجزائرية رمطان لعمامرة للقاهرة، من أجل استمالة مصر للقبول بالأجندة التي تريد الجزائر فرضها على القمة العربية. وهي القمة التي كان منتظرا عقدها بالجزائر شهر مارس الماضي، وتأجلت بعدها إلى الخريف القادم.
تعقيدات الملف الليبي
ورغم أن أزمة العلاقات بين القاهرة والجزائر متعددة ومتشعبة، إلا أن الملف الليبي يبقى أكبر نقاط الخلاف بين البلدين.. حيث يجب التذكير بأن مواقف العواصم الثلاث (القاهرة – الجزائر – الرباط) تتباين بشكل جذري. فالجزائر تدعم حكومة عبد الحميد الدبيبة رئيس حكومة غرب ليبيا التي مقرها طرابلس. بينما تساند مصر حكومة شرق ليبيا التي يقودها فتحي باشاغا. وبذلك يلتقي الموقف الجزائري مع موقف تركيا الغريم المنافس للقاهرة في المنطقة. أما الموقف المغربي فيلزم الحياد بين أطراف النزاع الليبي، ما سمح للرباط على مدى سنوات الأزمة الليبية العشر، بتنظيم أكثر من مؤتمر ولقاء لمصالحة تلك الأطراف، في الصخيرات وبوزنيقة وطنجة.
وخلال الأسابيع الأخيرة، زادت ردود فعل الجزائر حدة حيال المحاولات المصرية في ليبيا لدعم باشاغا ومساعدته على دخول العاصمة طرابلس، عبر عقده تحالفات مع زعامات ومجموعات مسلحة في غرب ليبيا. وتكررت رسائل التهديد الجزائرية للقاهرة على لسان الرئيس تبون، بأن بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي وأن “طرابلس خط أحمر”. وهو ما يعني انخراطا عسكريا جزائريا مباشرا لدعم حكومة الدبيبة، والرهان الحقيقي للخلاف الجزائري المصري ليس سياسيا صرفا، بل تقف خلفه أسباب أخرى.
فقد سبق للدبيبة أن صرح خلال زيارته للجزائر، قبل ثلاثة أسابيع، بأنه تحدث مع الجزائريين حول “زيادة التعاون الاقتصادي، خصوصا في قطاعي النفط والغاز”.
ويشهد ضخ الغاز والنفط –للتذكير– انقطاعات متواصلة في ليبيا، بسبب عمليات الغلق الحاصلة في المناطق الجنوبية والشرقية. ولذلك تراهن قوى المنطقة الغربية، وفي مقدمتها حكومة الدبيبة، على الجزائر للتدخل لدى الأطراف المسيطرة على الجنوب الليبي لاستئناف ضخ تصدير النفط والغاز. ولذلك وقعت شركة الطاقة الجزائرية “سوناطراك”، في فبراير الماضي بالعاصمة طرابلس، بروتوكول اتفاق مع المؤسسة الوطنية للنفط الليبية (التابعة لحكومة غرب ليبيا)، يقضي باستئناف الأولى نشاطها في ليبيا في استخراج وتصدير المحروقات، بعد توقفه منذ اندلاع الأزمة في 2011.
وكان الإعلامي الليبي المستقل نبيل السوكني، قد كشف قبل أيام بأن «الجزائر تعتزم –”إذا لزم الأمر”– توقيع اتفاق دفاع مشترك مع الحكومة الليبية برئاسة الدبيبة»، على غرار الاتفاق الذي سبق أن وقعته حكومة طرابلس السابقة مع تركيا، قبل ثلاث سنوات. و تدعم الجغرافيا كذلك هذا الاستقطاب السياسي. إذ بينما تتقاسم ليبيا حدودها الشرقية مع مصر على طول يناهز 1115 كم، تجمعها أيضا من الجهة الجنوبية الغربية حوالي 1000 كلم من الحدود مع الجزائر.
القاهرة تكررها: “الصحراء مغربية”
إن الاستفاضة في استعراض تفاصيل الأزمة المصرية – الجزائرية، تعتبر من وجهة نظرنا ضرورية لفهم التحرك المصري اتجاه الرباط مطلع هذا الأسبوع. خصوصا سياق تأكيد البيان المشترك، الصادر في أعقاب زيارة شكري الاثنين الماضي، على
أثار السفير المصري بالرباط مصطفى كمال عثمان، الذي لم يكن قد مضى على استلامه مهامه بالمغرب سوى شهرا ونصف، الدهشة والجدل، بإعلانه في 24 يناير الماضي، أن بلاده تدعم بقوة الوحدة الترابية للمملكة المغربية، مؤكدا أن القاهرة “لا تعترف بما تسمى الجمهورية الصحراوية ولا تقيم أية علاقات معها”. وكشف السفير من جانب آخر، بأن “مصر سبق لها أن شاركت في مؤتمر دعم مبادرة الحكم الذاتي”، معتبرا أن “الموقف المصري واضح وغير قابل للتأويل” بخصوص مغربية الصحراء.
تصريحات مصطفى كمال عثمان الذي شغل، قبل أن يُعيّن سفيرا بالمغرب في ديسمبر الماضي، منصب نائب لوزير الخارجية المصري، بحيث كان بالتالي على اطلاع جيد بالملف، شكلت صدمة سياسية لأكثر من طرف وعلى أكثر من صعيد.
كانت صدمة قوية للجزائر أولا، لأنها تزامنت مع زيارة كان يقوم بها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون للقاهرة، بحيث شكلت رسالة واضحة وردا قويا وغير متوقع على الغضب المصري من الجزائر. وهي كانت صدمة للمغاربة أنفسهم ثانيا، وهم المعنيين الأولين بمغربية الصحراء، لأنها شكلت انقلابا جذريا في الموقف المصري من قضية المغرب الأولى.
فالمعروف أن القاهرة ظلت وفية لموقفها السلبي من قضيتنا الوطنية. والمعروف كذلك أنه منذ انتخاب المشير عبد الفتاح السيسي رئيسا في صيف 2014، مرت العلاقات بين الرباط والقاهرة بفتور ملموس غير واضح الأسباب. فقد سبق للسيسي أن استفز المغرب في منتصف أكتوبر 2016، باستقباله وفدا من جبهة البوليساريو، على هامش مشاركته في أعمال المؤتمر البرلماني العربي الإفريقي، الذي نظم بمدينة شرم الشيخ في إطار احتفالية مرور 150 عاما على تأسيس البرلمان المصري.. وتلت ذلك زيارة وفد مصري رسمي لمخيمات تندوف، واحتفاء غريب في الإعلام المصري بجمهورية الوهم، حيث تمت استضافة رئيسها السابق محمد عبد العزيز في وسائل إعلام مصرية، نكاية في المغرب.. بحيث لا أحد في المغرب ومصر فهم تلك الخطوة الغريبة.
كان المبرر المصري –غير المعلن– لهذا الهجوم على الرباط، يتمثل في أن نظام السيسي يكن عداء أسود لحكومة بنكيران (حزب العدالة والتنمية المنتخبة ديمقراطيا لمرتين بين 2011 و2021)، التي كان يقول عنها المصريون إنها “حكومة إخوان”. ونكاية في “حكومة الإخوان” المغربية كذلك، كررها “المشير” في مؤتمر غينيا الاستوائية، في نوفمبر 2016، عندما بقي شبه وحيد بعد انسحاب 8 دول عربية (بينها دول الخليج) ودول إفريقية، من القمة العربية الإفريقية، احتجاجا على إصرار الاتحاد الإفريقي على مشاركة وفد جبهة البوليساريو في أعمال القمة.
وعندما أعلنت جبهة البوليساريو “العودة إلى الحرب” ضد المغرب في 13 نوفمبر 2020، سارعت الأردن ودول مجلس التعاون الخليجي الست إلى الإعلان عن دعمها الكامل لسيادة المغرب ووحدة أراضيه، مدافعة عن حقه في أن يتخذ الإجراءات التي يراها مناسبة لحماية بلاده. بينما رفضت مصر دعم المملكة ودعم للجيش المغربي في مواجهة التحرشات الانفصالية.. بل أكثر من ذلك، في 15 نوفمبر 2020، دعت القاهرة “الأطراف المتنازِعة” إلى “ممارسة ضبط النفس ووقف أي أعمال استفزازية قد تُعرِّض المصالح الاقتصادية في المنطقة للخطر”[كذا]. وهو الموقف العجيب الذي انتقده المغرب الرسمي والشعبي بشدة.
ولذلك ينبغي قراءة إعادة التأكيد المصري، بمناسبة الزيارة الرسمية لوزير الخارجية سامح شكري، على اعتراف القاهرة بمغربية الصحراء، على أنه إعلان رسمي على إغلاق نهائي للأزمة بين القاهرة والرباط التي دامت قرابة عقد.
ترميم العلاقات الاقتصادية
على أن الملفات السياسية ليست وحدها ما حمل شكري على السفر إلى الرباط لمناقشتها. فبين المغرب ومصر ملفات تجارية واقتصادية عالقة، ربما هي من تداعيات الأزمة السياسية المذكورة، وأيضا فرص للتعاون وجب استثمارها، وبالتالي وجب التفاوض بشأنها. وربما كان الأكثر استعجالا للطرف المغربي في هذه الأيام الصعبة، أن يستغل كون مصر أصبحت أحد أهم مصدّري الغاز في العالم في السنوات الأخيرة، لتجاوز الأزمة التي تركها قطع الجزائر لصادراتها إليه من الغاز في نهاية أكتوبر 2021.
فمصر تعتبر المغرب منافسا قويا في مجال قطاع صناعة السيارات، خصوصا بعدما أصبح المغرب في طليعة الدول العربية والإفريقية المصنعة للسيارات، بما يزيد عن 700 ألف سيارة سنويا. ولذلك فإن مصر حرصت منذ العام 2014، على منع ولوج صادرات المغرب من السيارات إلى أسواقها. وهو الإجراء الذي سرعان ما انتقل إلى سلع وبضائع مغربية أخرى.
وفي مواجهة هذه الإجراءات، ردت الرباط بدورها بمنع عدد من المنتجات المصرية من ولوج السوق المغربية. وخلال العام الماضي، مُنعت سفن مصرية من تفريغ حاوياتها في موانئ المغرب. وبرر وزير الصناعة والتجارة المغربي السابق، مولاي حفيظ العلمي، هذا الإجراء بتجاوزات يقوم بها الشركاء التجاريون في أرض الكنانة. فقد كشف أمام البرلمان في يونيو 2021، بأن مقاولات مصرية تقوم باستيراد سلع صينية رديئة الجودة، لتلصق عليها عبارة “صنع في مصر”، ثم تعيد تصديرها إلى المغرب على أساس أنها سلع مصرية. وأوضح العلمي بأن الأمر يشمل بـ 3 من أصل كل 5 حاويات تُصدرها مصر للمغرب، مضيفا بأنه أنذر زميلته المصرية –حينها– بقراره منع دخول الصادرات المصرية إلى المغرب، لحين يتم حل هذا المشكل وأن تتراجع مصر عن رفضها دخول صادرات السيارات المغربية إلى أسواقها.
وقد أثرت هذه “الحرب” التجارية وما نتج عنها من عقوبات متبادلة، بشكل كبير، على الميزان التجاري بين البلدين. فبحسب صحيفة “المال” المصرية، فقد تراجع حجم التبادل التجاري بين القاهرة والرباط خلال العام 2020، إلى 453 مليون دولار، في مقابل 519 مليون دولار خلال الفترة نفسها من العام 2019. وبحسب مصادر مصرية، فقد سبق للرباط والقاهرة أن شكلتا “مجموعة عمل” من وزارتي التجارة في البلدين، بهدف الوقوف على مختلف الصعوبات والتحديات التي تعيق حركة التبادل التجاري والتعاون الاستثماري بين البلدين. ويرتقب أن تطلق زيارة سامح شكري الأخير للرباط بإعادة بث الروح في أعمالها.
تعليقات ( 0 )