لوبي العقار.. “دولة” داخل الدولة

سعت الدولة منذ أكثر من عقدين إلى تقليص فجوة السكن وتوفير الإقامة للفئات الهشة وذات الدخل المحدود، واشترطت أن لا تقل مساحته عن 50 مترا وأن لا تتجاوز 80 مترا دون أن يتجاوز ثمنها سقف 25 مليون سنتيم، ضمن مخطط تيسيير ولوج الفئات الاجتماعية إلى مساكن لائقة، لكنها في المقابل لم تنتبه أنها بصدد خلق “لوبيات العقار” وإيقاظ “وحش الجشع” الذي تحين الفرصة ليحتكر صفقات بناء السكن الاقتصادي الذي تحول بمرور الوقت تحت مسمى السكن الاجتماعي دون أن يواكبه تغيير في خصائص ومواصفات ومساحة “علب الكبريت”، بل واصلت على نفس خط استفادة كبار المنعشين العقاريين الذين اغتنوا من الامتيازات التي منحت لهم لإيواء المستضعفين، قبل أن يتغولوا ويشكلوا أحد أشرس اللوبيات الاقتصادية الضاغطة لتكبيل أي إرادة من طرف السلطة التنفيذية والتشريعية لخطو خطوة إلى الوراء، وسط سخط وغضب من المستفيدين.
السكن الاقتصادي..قبر الحياة
أقدمت الدولة على تحفيز المقاولات، بمساهمة جبائية بمبلغ بـ 40 ألف درهم عن كل شقة من أجل تشجيع المنعشين العقاريين على بناء وحدات سكنية للطبقات المتوسطة والفقيرة على حد سواء، وهو أمر لا ينعكس إلا على كبريات شركات السكن التي تستفيد تشييد هذه الشقق الصغيرة لفائدة الطبقات المسحوقة.
ضعف حضور الدولة في المراقبة والزجر يشجع الشركات على شجعها، فزيادة على هامش الأرباح الذي يتجاوز في غالب الأحيان 12 مليون سنتيم، فإن أغلب المواد المستعملة في البناء وتجهيز الشقق من النوع الرديء، وعلى سبيل الذكر الأبواب الخشبية وشبابيك النوافذ وتجهيزات المطابخ والمراحيض، دون الحديث عن الأرضية والتصدعات التي تظهر في جدران وسقوف هذه “الأقفاص” التي لا تتجاوز مساحتها 50 مترا وأحيانا تكون في حدود 40 مترا، وذلك نتيجة غياب المراقبة وتماطل الدولة عن تأدية واجبها في محاسبة المسؤولين الذين يخلون بالتزاماتهم في احترام الشروط الموثقة في دفتر التحملات.
تفاجأ عدد من المستفيدين من السكن الاقتصادي من كثرة العيوب بها، دفعت بعدد منهم إلى طلب قرض آخر لإصلاحها، ذلك أنك تشتري جدرانا فقط، لكن يجب عليك بعد ذلك تبليطها وتغيير “زليج” الأرضية، ثم تغيير حوض غسل الأواني والرخام في المطبخ وشبابيك النوافذ والغرف وأشياء أخرى. في وقت يحرص العقاريون على تزيينها وتسويقها للزبون في مناشير إعلانية ووصلات تلفزيونية تنشطها وجوه فنية معروفة.
وأحيانا يصطدم الزبون بعيوب في الأسلاك أو طلاء الشقة أو غيرها، علما أن عقد تملك الشقة يتيح له متابعة المنعش العقاري لحثه على احترام مواصفات ومعايير الشقة لتطابق ما تم الاتفاق عليه في عقد البناء، غير أن الأمر في المغرب يبدو كالنكتة، ففي بعض الشقق التي يشير العقد فيها إلى المساحة، يتم التلاعب بالكلمات، ويدون رقم لكن الحقيقة قد تكون مختلفة وتبرير الشركات العقارية واحد أن أجزاء من السلالم والبهو الخارجي المشترك للشقق الأربعة يحتسب ضمن مساحة الشقة.
تفجر قبل سنوات قليلة ملف متابعة  قضائية من أمن الدار البيضاء لمقاولين معروفين بسبب تورطهم في استعمال مواد بناء مغشوشة ومقلدة من أجل تقليص كلفة إنجاز الوحدات السكنية، فحسب المعطيات التي تسربت بعد الحادث تأكد بأن عددا من المنعشين العقاريين يتعاملون مع شركات صينية جديدة لاستيراد الأبواب والنوافذ وغيرها من تجهيزات الشقق بثمن أرخص ومدة حياة أقصر، وهو ما يضطر المستفيدين من السكن إلى القيام بإصلاحات دورية ومتكررة بسبب رداءة جودة التجهيزات المستعملة.
 
احتيال ونصب ومشاريع في حكم «السورسي »
 
عاش أكثر من ألف مغربي كابوس أكبر عملية احتيال عقاري في المغرب، بعد أن تبخر حلمهم في الحصول على شقق، ضخ الحالمون بها مبلغ 600 مليون في حساب صاحب المجموعة منذ سنوات، قبل أن يتفجر ملف القضية في السنة الماضية ويكشف حجم العبث وربما التواطؤ الذي قاد المقاولة إلى إطلاق 15 مشروعا وهميا في الدار البيضاء ونواحيها.
“باب دارنا”التي يتابع صاحبها اليوم، لم يكن يملك وثائق ملكية الأراضي ولا رخص البناء، لكنه نجح في “بيع الحوت في الما”، ليطرح السؤال حول من كان يحمي هذه الشركة الوهمية التي مررت وصلاتها الإشهارية أمام العالم، واستعانت بوجوه فنية بارزة كحسن الفد ومحمد الخياري وسكينة درابيل، بل وتمكنت من فتح مكاتب تسويق وبيع فوق أراضي ليست في ملكيتها، ووصل الأمر بمالك الشركة الوهمية إلى المشاركة في معارض عقارية داخل وخارج المغرب، لينجح في إضافة جزء مهم من مغاربة العالم إلى قائمة ضحاياه.
مشروع “باب دارنا” ضمن عشرات المشاريع العقارية التي لم تعرف نهايتها الطبيعية بتسليم الزبائن الخدمة التي أدوا ثمنها، تسائل دور عدد من المتداخلين في هذه الملفات، وخاصة رؤساء الجماعات التي تقع هذه الممارسات التضليلية والتدليسية على مجال نفوذهم الترابي باعتبار الاختصاص الممنوح لهم في مراقبة مخالفات السكنى والتعمير، دون إغفال مصالح تصحيح الإمضاءات، التي في المثال الذي سقناه، أكد الضحايا أنهم تقدموا لتصحيح إمضاءات العقود خارج أوقات العمل، قبل أن تضيف الشكاية مسؤولية الإدارة الترابية، في شخص القائد والباشا، الذي جرت أمام أنظارهم أكبر عملية احتيال دون أن يتمكنوا من تحريك ساكن، ومنع المعني بالأمر من وضع نقاط بيع ولوحات إعلانية في أراض ليست في ملكيته ودون الحصول على ترخيص من الجماعة.
 
لوبي العقار..دولة داخل الدولة
لم يحمل قانون البيع في “طور الإنجاز”  شيئا جديدا، بل جاء لخدمة مصالح المنعشين العقاريين، وزكى فرضية الذين دافعوا عن فكرة أن القانون لا يعكس سوى توازن القوى في المجتمع، ونزول هذا القانون في 2016 لم يكن إلا بغاية تهدئة تصعيد لوبي العقار.
هكذا، فقد أصبح بإمكان المنعش العقاري بموجب النظام الجديد تقديم سلف نقدي على سعر البيع حتى قبل بدء البناء، يمكن أن يصل إلى 20٪ من سعر البيع. مما يسمح له  بتمويل مشروعه العقاري بفضل دفعات المشترين دون اللجوء إلى التمويل المصرفي الذي يولد تكاليف مالية إضافية، خاصة وأن القانون يسمح له بتحصيل ما يصل إلى 80 ٪ من السعر حتى قبل توقيع العقد بشكل نهائي.
في المقابل سمح القانون الجديد بعملية التصريح بالتوقيع على عقد البيع الأولي بمجرد الحصول على رخصة البناء، بينما في السابق لم يكن توقيع العقد ممكنا إلا بعد استكمال البناء على مستوى الطابق الأرضي.  ولمنح المنعش العقاري مزيدًا من الحرية في علاقته بالمشتري، لم يعد القانون يسمح لهذا الأخير بتسجيل إخطار مسبق بالحجز لحماية مصالحه عندما تغطي الوديعة المقدمة من البائع المبالغ المدفوعة وبالمثل، لا يُسمح بتسجيل الإشعار المسبق إلا عندما تتجاوز الأقساط المدفوعة 50٪ من سعر البيع وبالتالي، يُحرم المشتري من وسيلتين من الإجراءات القادرة على تمكينه من حماية مصالحه في مواجهة المروج الذي لا يحترم التزاماته التعاقدية .ميزة أخرى، لا تقل أهمية، تكمن في حقيقة أنه في حالة التأخير في تنفيذ أعمال البناء، سيستفيد البائع تلقائيًا ودون موافقة المشتري، من فترة إضافية مدتها ستة أشهر دون تأخير في السداد.
من ناحية أخرى، فإن أي تأخير في السداد حسب الجدول المحدد في العقد الأولي يعرض المشتري لغرامة قدرها 1٪ شهريًا بحد أقصى 10٪ سنويًا. التوازن التعاقدي سيصبح مختلا لصالح البائع على حساب المشتري الذي سيتعين عليه خلال الأشهر الستة الممنوحة للبائع الذي لم يحترم تنفيذ أعمال البناء، دفع تكاليف إضافية كفوائد مصرفية أو إيجار. أظهر المنعشون العقاريون مرة أخرى قوة اللوبي الذي يتحكم في القطاع وتمتد ذراعه إلى السلطة التشريعية والتنفيذية من أجل تأمين وحماية مصالحه ورعايتها من كل تهديد، بدليل أن فيدرالية المنعشين العقاريين كانت قد أعلنت قبل أشهر قليلة أنها تعتزم توقيف العمل بالتدابير التحفيزية لاقتناء الشقق السكنية التي تدخل في إطار مشاريع السكن الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما يشكل نسبة 24٪ من الزيادة، مستغلة غطاء الجائحة العالمية لحماية هامش أرباحها، وهو أمر نجح فيه لوبي العقار بعد تعديل مشروع القانون ومنح المنعشين العقاريين ستة أشهر إضافية من أجل إنجاز برامج السكن بإعفاءات ضريبية برسم قانون المالية لسنة 2020 .

كلمات دلالية
شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي