حكاية الاعتراف الإسباني.. رمال الصحراء التي خلطت أوراق الخصوم

نهج دبلوماسي صارم، رادم وحاسم ولا يقبل ضبابية المواقف، وضع المغرب خصومه في زاوية ضيقة في ظل توالي الانكسارات على الساحة الدولية منذ القرار التاريخي للولايات المتحدة الاعتراف بالسيادة الكاملة للمغرب على صحرائه، وما تلاها من تطورات حاسمة في مسار قضية الصحراء المغربية.
محاولات الخصوم، وعلى رأسهم الجزائر، تحولت مع مرور الوقت إلى سلاح أعدم مخططات يائسة لضرب السيادة المغربية. فلا أحد يمكن أن ينكر بأن الجزائر تحتضن فوق أراضيها ميليشيات مسلحة همها الوحيد هو زعزعة استقرار المغرب، ولنا في موقعة الكركرات خير مثال على محاولة زعزعة طمأنينة الآمنين، في المغرب وفي المحيط الإقليمي.
هذه الأحداث خلفت قناعة لدى صانع القرار الدولي، وعلى رأسهم أغلب الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن، بأن دعم اي مخططات لتفكيك وحدة الدولة في المنطقة لن تؤدي إلى زعزعة الاستقرار وتشجيع التنظيمات المتطرفة على توسيع نشاطها في منطقة الساحل والصحراء، لاسيما وأن تقارير دولية مختلفة اعترفت وكشفت عن علاقة تنظيم “البوليساريو” بهذه التنظيمات.
هكذا، وفي سياق دولي اقتنعت فيه الدول كبرى بأن قضية الصحراء لا يمكن أن تحل إلا في إطار سيادة المغرب ووحدة أراضيه، وجدت الجزائر وصنيعتها البوليساريو أنفسهما في ورطة حقيقية، تزداد سوء في ظل حالة الاحتقان والغليان التي تشهدها مخيمات المحتجزين في تندوف، الذين تستعملهم عصابات البوليساريو وجنرالات الجزائر من أجل تسول المساعدات الدولية، غلتي تنتهي قي غالب الأحيان في الحسابات البنكية لـ”أثرياء”.
ولأن حقيقة النزاع المفتعل لا تخفى على الكبار، فقد تسارعت مواقف الدول لدعم سيادة المغرب على صحرائه، لتتوج بالموقف الإسباني الداعم لمشروع الحكم الذاتي بوصف الأساس الجدي لحل هذا النزاع، وهو تحول استراتيجي وتاريخي في موقف دولة استعمرت الصحراء، ولها من الوثائق والأدلة التاريخية ما يكفي لتجعل سياسييها ودولتها العميق لتنتصر للسيادة المغربية، بدل مطاردة سراب الانفصال.
لا تفاوض على الصحراء
إذا كانت الدبلوماسية المغربية، وفي واجهتها وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي، ناصر بوريطة قد أبانت على قدر كبير من الاحترافية والذكاء الدبلوماسي في تدبير عدد من الملفات الاستراتيجية للمملكة، فإن الرؤية الملكية تظل حاسمة في كل الخطوات والتوجهات الدبلوماسية، وهو ما يمكن الوقوف عنده من خلال عدد من الخطابات وعلى رأسها خطاب الذكرى السادسة والأربعين للمسيرة الخضراء.
هذا الخطاب كان في واقع خارجة طريق من أجل الاستمرار على النهج الدبلوماسي الصارم والذكي للمغرب. فقد أكد الملك محمد السادس، أن الدينامية الإيجابية، التي تعرفها قضية الصحراء لا يمكن توقيفها. وأبرز العاهل المغربي أن مغربية الصحراء حقيقة ثابتة، لا نقاش فيها، بحكم التاريخ والشرعية، وبإرادة قوية لأبنائها، واعتراف دولي واسع.
خلال هذا الخطاب، أكد الملك بأن القوات المسلحة، التي قامت في 13 نونبر 2020، نجحت في تأمين حرية تنقل الأشخاص والبضائع، بمعبر الكركرات، بين المغرب وموريتانيا الشقيقة. وتابع الملك “وضع هذا العمل السلمي الحازم، حدا للاستفزازات والاعتداءات، التي سبق للمغرب أن أثار انتباه المجتمع الدولي لخطورتها، على أمن واستقرار المنطقة”.
وأبرز الملك محمد السادس بأن المغرب ” بالقرار السيادي، للولايات المتحدة الأمريكية، التي اعترفت بالسيادة الكاملة للمغرب على صحرائه، وهو نتيجة طبيعية، للدعم المتواصل، للإدارات الأمريكية السابقة، ودورها البناء من أجل تسوية هذه القضية”.
وأضاف الخطاب الملكي أن “هذا التوجه يعزز بشكل لا رجعة فيه، العملية السياسية، نحو حل نهائي، مبني على مبادرة الحكم الذاتي، في إطار السيادة المغربية”. وتابع العاهل المغربي قائلا: “افتتاح أكثر من 24 دولة، قنصليات في مدينتي العيون والداخلة، يؤكد الدعم الواسع، الذي يحظى به الموقف المغربي، لا سيما في محيطنا العربي والإفريقي، وهو أحسن جواب، قانوني ودبلوماسي، على الذين يدعون بأن الاعتراف بمغربية الصحراء، ليس صريحا أو ملموسا”.
وفي مواقف صريح، أكد الملك بأن “المغرب ينتظر من شركائه، مواقف أكثر جرأة ووضوحا، بخصوص قضية الوحدة الترابية للمملكة، وهي مواقف ستساهم في دعم المسار السياسي، ودعم الجهود المبذولة، من أجل الوصول إلى حل نهائي قابل للتطبيق”.
وأبرز الملك أن المغرب لا يتفاوض على صحرائه. ومغربية الصحراء لم تكن يوما، ولن تكون أبدا مطروحة فوق طاولة المفاوضات، وإنما نتفاوض من أجل إيجاد حل سلمي، لهذا النزاع الإقليمي المفتعل.
مواقف حاسمة
على هذا النهج من الوضوح في التعامل مع الشركاء الأجانب، وعلى رأسهم أعضاء الاتحاد الأوروبي، وقف المغرب بصرامة في وجه بعض المناورات التي كانت تستهدف مصالحه العليا، وهنا نتشكر قرار قطع الاتصالات مع السفارة الألمانية في الرباط.
هكذا، تم توجيه مراسلة من طرف ناصر بوريطة، وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين في الخارج، إلى سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة السابق، وأيضا إلى أعضائها، يؤكد من خلالها أن هذا القرار جاء بسبب سوء التفاهم العميق مع ألمانيا في قضايا أساسية تهم المملكة المغربية.
ودعا بوريطة، آنذاك إلى وقف أي اتصال أو تعاون مع السفارة الألمانية وكذلك منظمات التعاون والمؤسسات السياسية الألمانية التي لها علاقة بالسفارة.
محاولات فهم تفاصيل سوء التفاهم العميق حول القضايا الأساسية التي تهم المغرب ذهبت في أكثر من اتجاه. فهناك من تحدث عن تحركات لها علاقة بأمور أمنية، بينما ذهبت تحليلات أخرى إلى ربط ذلك بالملف الليبي، فيما اعتبر خبراء آخرون أن قضية الصحراء المغربية حاضرة بقوة في هذا الخلاف.
وهكذا، ظل التوتر هو سيد الموقف. فرغم كل محاولات رأب الصدع من الجانب الألماني، فقد ظل المغرب ثابتا في مواقف، وشعاره في ذلك وضوح وجرأة الشركاء في القضايا الاستراتيجية للمملكة.
وهكذا كان، فقد شهدت الاتصالات الدبلوماسية تطورات انتهت بإصدار الخارجية الألمانية بلاغا مطولا أنهى الأزمة وأعلن بشكل صريح عندما أكدت بأنها “تعتبر مخطط الحكم الذاتي بمثابة مساهمة مهمة للمغرب في تسوية النزاع حول الصحراء المغربية”. وأشارت إلى دعمها الجهود المبذولة من طرف المبعوث الأممي، ستافان دي ميستورا، من أجل التوصل إلى حل سياسي عادل، دائم ومقبول على أساس القرار 2602.
موقف دفع الخارجية المغربية المملكة لـ”ترحب بالتصريحات الإيجابية والمواقف البناءة التي عبرت عنها مؤخرا الحكومة الفدرالية الجديدة لألمانيا”. وأكدت الخارجية أنها “تأمل في أن تقترن هذه التصريحات بالأفعال بما يعكس روحا جديدة ويعطي انطلاقة جديدة للعلاقة على أساس الوضوح والاحترام المتبادل”.
هذا التحول في الموقف الألماني من شأنه أن يخلخل الكثير من المواقف داخل الاتحاد الأوروبي، ويحمي المغرب من بعض التحركات المشبوهة داخل المؤسسات الأوروبية التي تسعى إلى النيل من سيادة المملكة، تارة داخل البرلمان وتارة داخل محكمة العدل الأوروبية..فكلما تقوى الموقف المغربي على الصعيد الدولي، كلما ضعفت أطروحة الخصوم وتراجعت المواقف الداعمة لها، بما في ذلك تلك التي يدعمها بأموال البترول والغاز، والمساعدات الإنسانية أيضا.
إسبانيا وفك عقدة الصحراء
إذا الموقف الأمريكي الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء يشكل “زلزالا” حقيقيا في مسار هذا النزاع، فإن الموقف الإسباني لا يقل أهمية بل يمكن اعتباره من الناحية التاريخية والسياسية انتصارا دبلوماسيا حقيقيا للمغرب، بالنظر إلى أن مدريد لديها مسؤولية تاريخية في الصحراء، وتعرف أكثر من غيرها أن الأرض مغربية وأن البوليساريو ليست إلا وليدة صراعات مغربية داخلية تلقفها الخصوم من أجل بناء وهم الانفصال.
على مدى سنوات طويلة، ظلت إسبانيا مصدر قلق للدبلوماسية المغربية في قضية الصحراء. فمن جهة، تحاول مدريد أن تلعب دور المحايد، لكنها على المستوى الداخلي، ونخص بالذكر هيئات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، لا تتردد في دعم الانفصاليين ماديا وسياسيا في محاولة لإضعاف سيادة المغرب على أراضيه، والإبقاء على هذه الحصى المزعجة.
لكن السنوات الأخيرة شهدت تطورا ملحوظا في تدبير المغرب لعلاقاته مع إسبانيا، وبدا واضحا بأن تعامل الرباط بمنهج الند للند، جعل مدريد تفهم بأن الأمور بدأت تتغير وبأن الشراكة مع المغرب لا يمكن أن تتم بمنطق “الربح لمدريد والخسارة للمغرب”، بل لابد أن تنبني على أسس استراتيجية وواضحة وشفافة، بدل المناورات التي لا يتردد بعض السياسيين في حبك خيوطها، بما في ذلك بعض الوزراء.
هكذا كان، ففي فترة كانت تمر العلاقات بين البلدين من حالة برود دبلوماسية، تفجرت قضية دخول زعيم الانفصاليين إلى إسبانيا بجواز سفر مزور، الأمر الذي فجر غضب الرباط ودفعها إلى الاحتجاج بقوة وسحب سفيرتها، بالنظر إلى خطورة هذا الموقف. فالأمر لا يتعلق بشخص عاد، بل هو زعيم منظمة هدفها تهديد استقرار المغرب، وأيضا هو شخص موضوع شكايات ثقيلة بالإرهاب والاتجار في البشر في إسبانيا.
تحول الملف إلى أزمة دبلوماسية كبيرة بالرغم من محاولات الحكومة الإسبانية تبرير ما لا يبرر..ومع مرور الوقت بدا بشكل واضح أن تورط وزيرة الخارجية الإسبانية في عملية الدخول المشبوهة لزعيم الانفصاليين تحت اسم “بن بطوش” جعل حكومة في ورطة الحقيقية.
هكذا حاول بيدرو سانشيز أن يخفف من حدة غضب الرباط، ليتقرر تعديل وزاري انتهى بتعيين وزير خارجية جديد في شخص خوسي مانويل ألباريس، سفير إسبانيا لدى فرنسا، خلفا لأرانشا غونزاليس لايا، التي كانت طرفا أساسيا في الأزمة السياسية بين المغرب وإسبانيا على خلفية استقبال الأخيرة لزعيم البوليساريو بوثائق مزورة.
هذه الوزيرة التي حاولت، في خضم الأزمة مع الرباط، أن تحرك المؤسسات الأوروبية لإدانة المغرب بسبب أحداث سبتة، لتنتقل تداعيات هذا تدبير أرانشا غونزاليس إلى الاتحاد الأوروبي الذي تأثرت علاقات مؤسساته بإسبانيا بسبب عدم إشارة المفوضية الأوروبية إلى أي إدانة للمغرب في أعقاب قرار البرلمان الأوروبي الذي لم يتحصل على الإجماع، بل ما حصل هو حرص المؤسسات الأوروبية على الإشادة بالعلاقات مع المغرب باعتباره شريكا أساسيا للتكتل الاقتصادي الأوروبي في العديد من الملفات ذات الأهمية.
قرار إبعاد هذه الوزيرة وتعويضا بألباريس لم ينجح في نزع فتيل التوتر، بل احتاج الأمر شهورا طويلة من المفاوضات من أجل وضع النقط على الحروف، ولاسيما أن المغرب ظل يحرج إسبانيا بدعوته لتقديم رد مقنع بشأن السماح لابراهيم غالي بالدخول إلى البلاد باستعمال جواز سفر مزور.
انفراج وموقف تاريخي
إذا كان التوتر سيد الموقف، فإن الاتصالات بين المغرب وإسبانيا لم تهدأ بعد تعيين وزير الخارجية ألباريس الذي تحرك بقوة من أجل استئناف العلاقات الدبلوماسية مع الرباط وعودة سفيرته إلى مدريد، وإحياء مختلف أوجه التعاون، لاسيما في مجال الهجرة الذي يؤرق بال إسبانيا والاتحاد الأوروبي بشكل عام.
هذه المفاوضات نجحت في نزع فتيل التوتر وإعادة ترتيب الأوراق والمواقف بشأن القضايا الاستراتيجية للمملكة، وعلى رأسها قضية الصحراء المغربية. هكذا، ففي رسالة بعث بها إلى الملك محمد السادس، أكد رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز أنه “يعترف بأهمية قضية الصحراء بالنسبة للمغرب”. وفي هذا الصدد، “تعتبر إسبانيا مبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب سنة 2007 بمثابة الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل تسوية الخلاف”.
وأشارت الرسالة إلى “الجهود الجادة وذات المصداقية التي يقوم بها المغرب في إطار الأمم المتحدة من أجل تسوية ترضي جميع الأطراف”. وأبرز رئيس الحكومة الإسبانية في رسالته أن “البلدين تجمعهما، بشكل وثيق، أواصر المحبة، والتاريخ، والجغرافيا، والمصالح، والصداقة المشتركة”.
وأعرب سانشيز عن “يقينه بأن الشعبين يجمعهما نفس المصير أيضا”، وأن “ازدهار المغرب مرتبط بازدهار إسبانيا والعكس صحيح”. وأكد رئيس الحكومة الإسبانية في رسالته على أن “هدفنا يتمثل في بناء علاقة جديدة، تقوم على الشفافية والتواصل الدائم، والاحترام المتبادل والاتفاقيات الموقعة بين الطرفين والامتناع عن كل عمل أحادي الجانب، وفي مستوى أهمية جميع ما نتقاسمه”.
وفي هذا السياق، يضيف سانشيز، فإن “إسبانيا ستعمل بكل الشفافية المطلقة الواجبة مع صديق كبير وحليف”. وأضاف: “أود أن أؤكد لكم أن إسبانيا ستحترم على الدوام التزاماتها وكلمتها”. من جهة أخرى، جدد رئيس الحكومة الإسبانية، التأكيد على “عزمه العمل جميعا من أجل التصدي للتحديات المشتركة، ولاسيما التعاون من أجل تدبير تدفقات المهاجرين في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، والعمل على الدوام في إطار روح من التعاون الكامل”. وخلص رئيس الحكومة الإسبانية إلى “أنه سيتم اتخاذ هذه الخطوات من أجل ضمان الاستقرار والوحدة الترابية للبلدين”.
هذه الرسالة التي حملت موقفا تاريخيا سرعان ما أثارت غضب البعض في إسبانيا، لكنها عكست وضعا جديدا لدى الدولة الإسبانية عنوانه فك عقدة الصحراء التي ظلت تحكم وتؤخر العلاقات مع المغرب منذ سنة 1975. فقد بعث بيدرو سانشيز إشارات واضحة بأن العلاقات بين المغرب وإسبانيا هي “مسألة دولة”، وهو رد يحمل أكثر من رسالة إلى من حاولوا النيل من الحكومة الإسبانية بعد الموقف التاريخي.
لقد أدركت إسبانيا، مع مرور الوقت، أن قضية الصحراء لا يمكن أن تحل إلا في إطار سيادة المغرب باعتبار موقفه الشرعي والتاريخي. ولذلك، فإن الزيارة التي ستقود سانشيز إلى الرباط، بدعوة من الملك محمد السادس، ستشكل خطوة استراتيجية وغير مسبوقة من أجل علاقات قوامها التعاون الاستراتيجي في إطار من الوضوح والعلاقات الشفافة، بعيدا عن المناورات المكشوفة والخفية.

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي