فساد الصفقات والنافذين.. النيابة العامة تضرب بقوة

عندما صدر تقرير المجلس الأعلى للحسابات، وصف الكثيرون الأمر بـ”الروتين الإعلامي” الذي لا يتجاوز إثارة “فرقعات” هناك وهناك، دون أن يتم ربط المسؤولية بالمحاسبة، ومساءلة الواقفين وراء الخروقات التي يتم تسجيلها في صرف أموال الدولة، حتى ساد الاعتقاد بأن المسؤولين العموميين لم تعد تنتابهم أية رهبة عندما يستقبلون قضاة مجلس العدوي.
لكن الذي وقع، هو أن القضاء ضرب بقوة في ملفات قد لا تكون إلا بداية في حرب طويلة لمواجهة أخطبوط الفساد الذي يكبد الدولة سنويا خسائر تصل إلى 5% من الناتج الداخلي الخام، وهو ما يكفي لبناء 150 مستشفى و300 مدرسة..بيد أن التلاعب بالصفقات لا يمكن حتى من إنهاء بناء المستشفيات والمدارس، التي تخصصها لها الدولة اعتماداتها الضرورية، وفق المعايير اللازمة.
من قضية رشيد الفايق، مرورا بزلزال بنك إفريقيا، ووصولا للعملية الأمنية النوعية للفرقة الوطنية للشرطة القضائية داخل وزارة الصحة، أرسلت النيابة العامة رسائل إنذار واضحة بأن زمن الإفلات من العقاب قد ولى، وبأن القادم سيكون “أسوأ” على الفاسدين والمفسدين.
شبكة “الفايق”..السقوط الحر
لم يكن البرلماني التجمع رشيد الفايق يعتقد أن يد القضاء ستطاله يوما، وهو الذي يوصف برجل فاس القوي، الذي أفلت من عدد من القضايا المثيرة للجدل والاتهامات التي وجهت له..بيد أن الأمور ذهبت عكس توقعات رئيس جماعة أولا الطيب، الذي بات ملفه معروف بـ”شبكة الفايق”، بعدما قاد اعتقاله إلى توقيف العديد من المشبته فيهم، والذين يوجد من بينهم شقيق الفايق الذي يرأس مجلس عمالة فاس.
تفاصيل صك الاتهام تؤكد أن أخطبوط الفساد في هذا المنطقة قد أحكم قبضته بشكل خطير جدا، لنجد أنفسنا أمام 24 تهمة وجهت للمعنيين. وضمن هذه الاتهامات هناك “الارتشاء واختلاس وتبديد أموال عمومية وأخذ فائدة بصفة غير مشروعة والتزوير في محررات رسمية وتبديد عن علم أوراق ومستندات محفوظة في مضابط والتصرف في أموال غير قابلة للتفويت”.
وتشمل الاتهامات أيضا “الغدر واستغلال النفوذ والنصب وتسليم شواهد إدارية بغير حق لمن ليس له الحق فيها والمشاركة في إحداث مجموعة سكنية فوق ملك من الأراضي التابعة للجماعة السلالية من غير الحصول على إذن وبيع مساكن من مجموعة سكنية لم يؤذن بإحداثها وإعداد وثائق تتعلق بالتفويت أو بالتنازل عن عقار أو الانتفاع بعقار مملوك لجماعة سلالية وعرقلة سير العدالة والحصول على محررات وأوراق تتضمن الالتزامات وتصرفات بواسطة العنف والإكراه”.
ولا تقف الاتهامات عند هذا الحد، بل تشمل “التزوير في محررات عرفية وتزوير وثائق تصدرها إدارة عامة واستعمالها والتوصل بغير حق إلى نسخ وثائق إدارية والتصرف في أمور الغير قابلة للتفويت والمشاركة في إحداث وحدات سكنية فوق ملك من الأراضي التابعة للجماعة السلالية من غير الحصول على إذن وإحداث وثائق تتعلق بالتفويت أو بالتنازل عن عقار”.
هذه الاتهامات الثقيلة التي تواجه أعضاء شبكة “الفايق” تكشف إلى أي حد يمكن لسياسي معروفة بالترحال بين الأحزاب أن يتحول إلى ملياردير بطريقة مشبوهة جدا، ويعتقد في لحظة “طغيان” بأنه يملك البلاد والعباد في منطقة تنخرها النسب المرتفعة من البطالة والفقر، وما تولدانه من ظواهر اجتماعية خطيرة على رأسها الإجرام.
“البابور” يغرق الكبار
فساد السياسي يكاد لا ينتهي، في ظل شبكات تنزع في أساليبها الإجرامية، لاسيما في المجال المالي الذي يستغل فيه النفوذ والسلطة لمراكمة الثراء غير المشروع. فإلى جانب قضية البرلماني رشيد الفايق، طفت على سطح الأحداث قضية البرلماني الدستوري بابور الصغير عن دائرة سطات، والذي جر معه قبل أيام المدير العام لبنك إفريقيا.
متابعة بابور الصغير في هذا الملف كانت بناء على شكاية تقدم بها “بنك إفريقيا” لرئيسه عثمان بنجلون. ذلك أن البرلماني المذكور يعد من زبناء البنك وظل يحصل على تسهيلات بنكية وقروض لفائجة شركاته، حيث تبلغ قيمة الديون المتراكم أزيد من 288 مليون درهم بالنسبة لشركة “س.أ” وأزيد من 35 مليون درهم بالنسبة لشركة “ف.ت”، دون احتساب الفوائد المترتبة عن التأخير في الأداء.
وقد تم اتهام البرلماني المذكور بالحصول على تسهيلات بنكية بناء على سندات مزورة. ورغم دخول البنك في مفاوضات مع الرجل من أجل أداء ما في ذمته، إلا أن الأخير لم يعمل على تسويتها ليتم رفع شكاية أمام القضاء.
تطورات هذا الملف، لاسيما بعد إضافة تهمة الارتشاء، جعلت الأمور تتعقد أكثر بعدما تحدث البرلماني المعتقل بسجن عكاشة عن كونه قدم هدايا ومبالغ مالية. وهكذا، قرر قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء متابعة المدير العام لبنك إفريقيا في حالة اعتقال، حيث تم إيداعه سجن “عكاشة” بناء على مخرجات التحقيق في القضية التي يتابع فيها برلماني سطات.
ويواجه المسؤول البنكي المعتقل على ذمة التحقيق اتهامات ثقيلة من بينها الارتشاء وتسهيل حصول البرلماني المذكور على مبالغ مالية ضخمة، وذلك باستعمال وثائق وكمبيالات مزورة. وقد تقرر أيضا متابعة مسؤولين آخرين في حالة اعتقال، من بينهم مسؤول بالمؤسسة البنكية وموثق.
الصحة.. عش الدبابير
التلاعب في الصفقات العمومية من أخطر مظاهر الفساد..فبدل تشييد مستشفى يمكن استغلاله لمدة 20 سنة، فإن التلاعب في الصفقة قد يؤدي إلى إنجاز مشروع مستشفى يتم تسليمه بعيوب مختلفة، بل يتم حتى التلاعب في التجهيزات والآليات البيوطبية التي تتوفر في مختلف مصالحه، وذلك بتواطئ بين الموظفين والشركات.
المجلس الأعلى للحسابات أصدر عشرات التقارير حول التلاعب في الصفقات، وكيف أصبحت الأخيرة تسيل لعاب المسؤولين الذين لا يتردد بعضهم في خياطة شروط طلبات العروض على مقاس شركات بعينها، أكانت قائمة أو وهمية، بل ويتم تجزيء الصفقات الكبيرة إلى سندات طلب صغيرة للإفلات من المنافسة.
وزارة الصحة واحدة من الإدارات العمومية التي تواجه في كثير من الأحيان اتهامات ثقيلة بالفساد، ولنا في الصفقات التي تم تنفيذها في سياق جائحة فيروس كورونا خير مثال على ذلك. فقد فجر تقرير اللجنة الاستطلاعية البرلمانية فضائح كبيرة حول طريقة تفويت هذه الصفقات، بعدما تحول استثناء تم منحه للوزارة في سياق الأزمة العالمية إلى مدخل للفساد والتلاعب.
لكن الملف الذي زلزل الوزارة صباح الأربعاء يتعلق بشكاية سبق أن وضعها وزير الصحة خالد آيت سنة 2019، وهو ما يعني أن التحقيق في صفقات كوفيد قد يحين موعده في أي وقت، ويتم تسليط الضوء على كثير من مواطن العتمة التي تحيط بتفويت تلك الصفقات، لاسيما وأن الوزارة ظلت تنفي كل ما يروج حولها، سواء داخل البرلمان أو على لسان المجتمع المدني.
ومن الغرائب والعجائب التي يمكن الوقوف عندها هو ما كشفه التقرير البرلماني بشأن عدد المقاولات التي أبرمت معها وزارة الصحة الصفقات التفاوضية خلال فترة “كوفيد” دون أن تتوفر على شواهد التسجيل والترخيصات الضرورية، وبلغ 45 شركة.
وزارة الصحة رفضت الجواب على مراسلات المهمة الاستطلاعية، لكن الأخيرة أخرجت خلاصاتها إلى العلن، وخلصت إلى أن المعطيات التي جرى الوقوف عليها تمثل خرقا واضحا للقانون وللمبادئ والقواعد الأساسية لإبرام الصفقات العمومية”، مشيرة إلى أنه “يفترض، إذا ما تأكد ذلك، أن تترتب عليه مسؤولية قانونية، لأن ذلك يضرب في الأساس مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين المقاولات، وهو مبدأ دستوري حرصت المملكة على تضمينه الوثيقة الأساسية للدولة.
زلزال الصفقات
في ساعة مبكرة من صباح الأربعاء 30 مارس، أصدر الوكيل العام بالبيضاء بلاغا بمثابة “زلزال” ضرب وزارة الصحة. فبناء على المعطيات والمعلومات التي تم التوصل بها من طرف الفرقة الوطنية للشرطة القضائية بخصوص وجود شبهة التلاعب في مجموعة من الصفقات العمومية الخاصة بالمؤسسات التابعة لقطاع الصحة إضرارا بالمال العام، أمرت النيابة العامة بفتح بحث قضائي قصد القيام بكافة الأبحاث والتحريات اللازمة والاستماع إلى كل الاطراف المعنية بالموضوع.
وكشف البلاغ أن نتائج هذه الأبحاث والتحريات أسفرت عن الاشتباه في تورط مجموعة من الأطر والموظفين والمهندسين العاملين بالمصالح المركزية والجهوية لقطاع الصحة وبعض أصحاب الشركات والمقاولات والمستخدمين فيها تمارس أنشطة تجارية ذات صلة بنفس القطاع، في ارتكاب أفعال منافية للقانون تمثلت في تذليل وتسهيل تمرير ونيل صفقات عمومية خلال السنوات الفارطة تهم عمليات توريد واقتناء أجهزة ومعدات طبية مخصصة لتجهيز مستشفيات القطاع العام، مقابل الحصول على عمولات وتلقي مبالغ مالية ومنافع عينية.
وزاد البلاغ “ورعيا لضرورة البحث، أمرت هذه النيابة العامة بصفة احترازية بعقل وحجز ممتلكات بعض المتورطين المشتبه في تحصلها من الأفعال المنسوبة إليهم، كما مكنت الأبحاث والتحريات من حجز مبالغ مالية مهمة لدى بعض المشتبه فيهم. وبتاريخ 29 مارس 2022 قدمت الفرقة الوطنية للشرطة القضائية بموجب هذه الأبحاث أمام هذه النيابة العامة 31 شخصا مشتبها فيهم، من بينهم 18 موظفا عموميا بقطاع الصحة و13 شخصا منهم أرباب شركات ومستخدمون”.
وأكدت النيابة العامة أنه “على إثر دراستها لوقائع الأبحاث المنجزة في الموضوع، عملت على تقديم ملتمس بإجراء تحقيق إلى السيد قاضي التحقيق المكلف بقسم الجرائم المالية، من اجل الاشتباه في ارتكاب المعنيين بالأمر لجرائم مختلفة تراوحت بين تكوين عصابة إجرامية، والارشاء، والارتشاء، وتبديد المال العام، وتزوير محررات رسمية، وتزوير وثائق تصدرها الإدارة العامة واستعمالها، وإتلاف وثيقة عامة من شأنها أن تسهل البحث عن الجنايات والجنح وكشف أدلتها وعقاب مرتكبيها، والتحريض على ارتكاب جنح، وإفشاء أسرار مهنية”.
وأمر قاضي التحقيق بعد استنطاق المعنيين بالأمر بإيداع 19 منهم رهن الاعتقال الاحتياطي بالسجن، فيما قرر إخضاع الباقي لبعض تدابير الوضع تحت المراقبة القضائية تراوحت بين إغلاق الحدود وإيداع كفالات مالية بصندوق المحكمة ضمانا لحضور إجراءات التحقيق. هذا ولا تزال الأبحاث جارية من قبل الفرقة الوطنية للشرطة القضائية في حق باقي المشتبه فيهم.
الغلوسي: قرارات جريئة وشجاعة للقضاء تتجاوب مع مطالبنا
على خلفية التوقيفات التي جرت في قضية صفقات وزارة الصحة، وصف محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، القرار القضائي في هذا الملف بالجريء والشجاع، “ويتجاوب مع مطالبنا”. وأضاف: “سبق لنا في الجمعية المغربية لحماية المال العام أن تقدمنا في وقت سابق بشكاية إلى رئاسة النيابة العامة حول الاختلالات التي اعترت تدبير الصفقات العمومية خلال جائحة كورونا”.
وأشار إلى أن هذه الاختلالات “تحدث عنها تقرير رسمي صادر في الموضوع وأثارت حينها نقاشا مجتمعيا واسعا حول شفافية هذه الصفقات خاصة وأن مبالغ مالية ضخمة قد خصصت لها وتم تمرير هذه الصفقات بإجراءات استثنائية خروجا على القواعد والمساطر الواردة بمرسوم الصفقات العمومية، ونتمنى أن تشكل هذه المناسبة فرصة لفتح هذا الملف قضائيا وترتيب الجزاءات القانونية المناسبة”.
وتابع الغلوسي بأن قضية الاعتقالات في وزارة الصحة تكشف “استغلال مواقع المسؤولية العمومية للتلاعب بالمساطر وخرق القانون إضرارا بالمجتمع وحقوقه في التنمية والعدالة ومراكمة الثروة بطرق مشبوهة من طرف مسؤولين وموظفين مؤتمنين على حقوق الناس”، مشيرا إلى أن ذلك يحدث “في الوقت الذي يعاني فيه قطاع الصحة من أمراض مزمنة وتفتقر بعض المؤسسات الصحية والاستشفائية للإمكانيات الضرورية المادية والبشرية للقيام بأدوارها ويضطر المجتمع لأداء تكلفة الفساد ونهب المال العام مقابل إرضاء جشع وهوس بعض المسؤولين”.
وشدد على أن هذا الأمر “يفرض قانونا على النيابة العامة المختصة فتح مسطرة الاشتباه في تبييض الأموال ضد المتورطين في هذه القضية وحينها سيكتشف الرأي العام حجم الثروات التي راكمها البعض بطرق منحرفة”. وزاد قائلا: “نتمنى أن يشكل قرار الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف بفاس في قضية البرلماني ورئيس جماعة أولاد الطيب ومن معه فضلا عن قرار الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالدار البيضاء مؤشرا إيجابيا للتصدي للفساد والرشوة ونهب المال العام وربط المسؤولية بالمحاسبة وتجسيد دور السلطة القضائية في تخليق الحياة العامة”.

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي