قراءة تحليلية في الجذور والتداعيات
لن يسعفنا مقال واحد ولا حتى كتاب، في تشريح سيرورة العداء الجزائري للمغرب الذي لا يزيد بمرور السنوات إلا استفحالا وتسميما للمناخ العام المغاربي. فهذه المتلازمة التي أسس لها الكولونيل هواري بومدين عقيدة إيديولوجية منذ 56 عاما، على قاعدة عدائه المتطرف للنظام الملكي في المغرب، ترسخت بحيث ظلت وستبقى إطارا حكَم وسيحكم العلاقات بين أكبر بلدين مغاربيين، على أساس حقد يتعمق أكثر فأكثر بينهما.
لقد ذهب هذا العداء مذهبا لا نكاد نجد له شبيها ‒ربما‒ في التاريخ، من حيث كونه تأسس على تزييف إيديولوجي للتاريخ القريب قبل البعيد، ليبني معادلة متطرفة سياسية وعسكرية تقوم على نقض الآخر، البلد الجار، ونفي وجوده على نحو يصعب التنبؤ بنتيجتها. وعكس ما يعتقده كثيرون فإن جوهر النزاع بين الجزائر والمغرب حاليا لم يعد ينحصر في النزاع المفتعل حول الصحراء، بل تشعب ليطال قضايا الزعامة الإقليمية والنفوذ في إفريقيا والحرب على الإرهاب، وغيرها.
والأكثر مدعاة للأسى في ما يجري، أنه ‒عكس ما يتوهم كثير من المغاربة‒ حتى لو تحققت المعجزة وتولى الحكم في الجارة الشرقية نظام مدني ديمقراطي، فإنه سيجد نفسه مقيدا بأغلال عقيدة العداء نفسها التي أسسها عقيد انقلابي منذ 1965!
يُعْرف التاريخ بأنه سجل حوادث الماضي كما دوّنه المؤرخون والإخباريون، بحيث لا يمكن فهم أي ظاهرة تاريخية إلا من خلال فهم سياقاتها، بسبب كونها جزءا من شبكة من القيم والمعتقدات والظروف المترابطة التي حكمت عصرها. لكن التاريخ في الحالة الجزائرية، كان ولا يزال ورشا مفتوحا على التأويل وإعادة الصياغة، بحسب ما تفرضه ضرورات التوظيف السياسي من تأويلات جديدة في كل مرة. ولذلك تختلق جزائر العسكر عند كل محطة سياسية، تاريخا على مقاس حقدها المتوارث على المغرب، لترميه بكل الشرور، في إطار مشروعها (الناجح) لترويض الشعب بالشحن العاطفي المغلوط على كره كل ما هو مغربي.
عقدة “التاريخ” والسياسة
هكذا وخلال استعراض الحيثيات التي ذكرها وزير خارجيتها العمامرة، لتبرير قطع بلاده علاقاتها مع المغرب الصيف الماضي، ذكر خلافات سياسية ومحطات تاريخية مر على بعضها أكثر من نصف قرن، أي منذ استقلال الجزائر. وتذهب المؤسسة العسكرية أبعد من ذلك، عندما مهدت لقطع العلاقات في افتتاحية عدد مجلتها (التي تحمل اسم “الجيش”) لشهر يوليو الماضي، بزعمها خيانة المغرب للجزائر منذ العام 104 قبل الميلاد (كذا)، “عندما قام بوخوس ملك موريتانيا الطنجية (المغرب الحالي) بتسليم يوغرطة ملك نوميديا [التي يفترض أنها الجزائر الحالية] إلى روما لتقتله”!
أما ما يقوله لنا التاريخ المكتوب بشهادة العدو قبل الصديق، أن روح تلاحم أخوي سادت بين البلدين الجارين، منذ بدايات العهد الاستعماري الفرنسي الذي استوطن الجزائر لـ 132 عاما (من 1830 حتى 1962). لكن بعد تقهقر المقاومة الجزائرية ومعها المغاربة المساندين لها أمام الآلة الحربية الفرنسية، في أربعينيات القرن 19، اضطر زعيمها الأمير عبد القادر إلى اللجوء للمغرب، وشرع في شن حرب عصابات ضد الفرنسيين. وبسبب دعمه للمقاومة الجزائرية، دخل المغرب في معركة إيسلي في 1844 ضد الفرنسيين، التي انهزم فيها شر هزيمة كان لها ما بعدها. وهو ما اضطره إلى التخلي مكرها عن المقاومين في نهاية المطاف، إذعانا منه لشروط الهزيمة التي مُني بها.
لقد تلت انقلاب العقيد هواري بومدين عام 1965 على أول رئيس للجزائر المستقلة، المعروف باسم عملية “التصحيح الثوري”، إلى أسطرة التاريخ الجزائري وخلق رموز يفخر بها الشعب، ضدا على المقولة الشهيرة لزعيم المقاومة الجزائري الشهير فرحات عباس، التي يأسف فيها لعدم وجود وطن جزائري يفخر به “لأن هذا الوطن غير موجود، لقد بحثت عنه في التاريخ فلم أجده وسألت عنه الأحياء والأموات وزرت المقابر دون جدوى”.
وهكذا تَشكل عداء الدولة الجزائرية المتطرف، الذي كرسه مؤسسها الحقيقي هواري بومدين للنظام الملكي بالمغرب، على قاعدة إعادة صياغة تاريخ الجزائر والمنطقة وفق رؤية إيديولوجية، بحيث تحول السلطان المغربي مولاي عبد الرحمن بن هشام من داعم للمقاومين الجزائريين إلى “خائن” لهم.. بينما كان المقاومون الجزائريون ‒في الواقع‒ قلة وغالبية القبائل الجزائرية المقاومة على قلتها انتهت إما إلى موالاة المحتل الفرنسي أو مهادنته. بل وانتهى الأمير عبد القادر نفسه (وهو الشريف ذو النسب الإدريسي الذي جعلت منه البومدينية لاحقا أسطورة تاريخية) إلى موالاة الفرنسيين والابتعاد عن الجزائر!
ولمن يبحث عن التفاصيل، ننصحه بمطالعة مذكرات الجنرال الفرنسي المجرم “بيغو” سفاح معركة إيسلي…
بروباغندا و”ذباب إلكتروني”
سوف يطول بنا المرور عبر مختلف محطات العداء من استقلال الجزائر قبل 59 سنة. ولذلك ننتقل بالقارئ توا إلى الحاضر حيث تكثفت جهود النظام الجزائري لتوريث مشاعر العداء للأجيال الصاعدة، مستفيدا من الشبكات الاجتماعية العابرة للحدود. ويمتلك لهذا الغرض منظومة إعلامية منظمة (كان يوجهها عقيد معروف خلال عهد بوتفليقة، ولا نعلم من يشرف عليها منذ سقوطه في 2019). وعقب تنحي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وإمساك الجيش بزمام الحكم من جديد، تعاظم تأثير “الذباب الإلكتروني” على الرأي العام. ويتعلق الأمر بجيوش إلكترونية تابعة للجيش والمخابرات الجزائرية، يُنَشّطون مئات الآلاف من الحسابات الافتراضية الوهمية على الشبكات الاجتماعية، وتنسق جهودها على مدار الساعة لاستهداف المغرب.
وسبق أن تابعنا حملات افتراضية معادية قادتها الكتائب الإلكترونية، حول قضايا حساسة تتصل بالوحدة الترابية والمؤسسة الملكية وقضايا وطنية بين المغاربة أو بينهم وبين الجزائريين. ومؤخرا جدا انخرط الذباب الالكتروني الجزائري وسط النقاش المغربي الداخلي، الذي دار افتراضيا على شبكات التواصل الاجتماعي، حول جواز التلقيح. وسجلت المخابرات المغربية ومعها فيسبوكيون حملة مدفوعة من حسابات الذباب الالكتروني الجزائري، لتهييج الرأي العام المغربي وتوجيهه لتفجير غضبه في الشارع.
والمعروف أن أغلب الإعلام الخاص في الجزائر ليس مستقلا. فإذا ما تركنا جانبا استثناءات نادرة جدا، فإن باقي المنابر والمنصات الإعلامية القوية في الجزائر تمولها إما مجموعات مالية (الخبر)، أو نافذون مقربون من رأس النظام أو من “الأجهزة” كمجموعات الشروق، والبلاد، والنهار، تشتغل على مدار اليوم (وبعضها على مدار الساعة) على تصيد زلات المغرب ومشكلاته، مع تركيز خاص على انتقاد “المخزن” ومؤسساته الحساسة في كل صغيرة وكبيرة تحسب عليه.
هذا الإعلام الذي يسعى إلى تشكيل رأي عام معادي، حيث رأينا يتشفى حتى في الكوارث الطبيعية عندما تضرب جاره الغربي، ويصطف إلى جانب أعدائه كما حصل مع إسبانيا خلال أزمات: جزيرة ليلى، وسبتة المحتلة، وإغلاق أنبوب الغاز قبل أسبوعين. دون الحديث عن ترويج هذا الإعلام المُوَجّه لحملات حول “القضية الصحراوية”، أكثر مما تفعله البوليساريو نفسها.
إن الخطاب المركزي لهذه القنوات الفضائية وكذا جرائدها ومواقعها الالكترونية، يقوم على ترسيخ تمثلات سلبية لدى المتلقي الجزائري، مفادها أن المغاربة يعانون الجوع والقمع، ودولتهم تُغرق الجزائر بالمخدرات ولا تنتعش فيها سوى الظواهر الحقيرة من سحر وسياحة جنسية، وهلم جرا. وحتى عندما لا تجد بعض المواقع جديدا حول المغرب “تشتغل” عليه، نجدها تعمد إلى “إعادة تدوير” أخبار قديمة أو اختلاق أخبار كاذبة بكل بساطة.
وطبعا تعيد هذه الحروب الإعلامية المنظمة إنتاج الحقد بين الشعبين، ضدا حتى على وصية بومدين ‒الذي ما زالت ظلاله تحكم الجزائر‒القائلة بأنه “لا ينبغي شتم المستقبل”. بمعنى أن عداءهم ينبغي أن يستهدف “المخزن” حصرا، ولا يشمل الشعب المغربي “الشقيق”!
معارك نفوذ لا جيوش
خلال العامين الأخيرين، تطور القاموس العدائي للنظام الجزائري ليبلغ درجة غير مسبوقة من الحدة. وغابت فجأة عبارات المجاملة الديبلوماسية في رسائل الرئيس بوتفليقة، التي ظلت تتوارى خلفها مشاعر العداء الراسخة على مدى يقارب العقدين. وبالمصادفة يراكم المغرب منذ قرابة العامين اختراقات وانتصارات واختراقات في ميادين شتى، تزيد من عزلة النظام العسكري في الجارة الشرقية داخليا وخارجيا. لعل في مقدمتها حسم المغرب لصالحه ولأول مرة، النزاع المفتعل حول صحرائه الغربية.
ولأن هذه تشرح تلك، فإن الجهد الأكبر للمغرب بات منصبا على الانضمام لنادي الـ 50 اقتصادا الأوائل في العالم، حتى وهو يستعد لأية حرب محتملة مع الجيران.
بهذا الصدد، يرى الصحفي الاستقصائي الجزائري عبدو السمار، بأنه “في الوقت الذي يستعرض النظام الجزائري قوته باحثا عن إشعال حرب مع المغرب، فإن معركته الحقيقية التي كان واجبا عليه الانشغال بها هي كسب رهان بناء اقتصاد قوي والوصول إلى أسواق إفريقية. وهذا للأسف ما فهمه المغرب، الذي لا يبدو منشغلا بالبحث عن حرب، ولم تفهمه بعد الجزائر التي يحكمها جنرالات عجائز”.
ويفسر ذلك تصاعد مشاعر العداء بموازاة مع قطع العلاقات الديبلوماسية، وغلق المجال الجوي الجزائري على الطائرات المغربية أو المسجلة في المغرب، ثم تصفية السائقين المغربيين بمالي لترهيب العاملين في قطاع الاتجار مع إفريقيا، وصولا إلى عدم تجديد اتفاقية أنبوب الغاز “المغرب العربي/ أوروبا” قبل أسبوعين. فخلف كل تلك المحطات العدائية نوايا للإضرار اقتصاديا بالمغرب، عملا بمبدأ “إذا لم تستطع مجاراة خصمك فعلى الأقل حاول عرقلة تقدمه”.
وبالنتيجة، أصيبت المواقف العدائية الجزائرية مؤخرا بارتباك سافر. فالجزائر ‒مثلا‒ وهي تبلغ مجلس الأمن الدولي انسحابها من المشاركة في “المائدة المستديرة حول قضية الصحراء بصفتها “عضوا ملاحظا”، تبرر قرارها هذا بكون “السياسات المغربية تضع المنطقة في حالة حرب”. فكيف لم تنتبه ديبلوماسية الجارة الشرقية إلى أن من يرفض المشاركة في البحث عن حل سياسي لمشكل، يتحمل مسؤولية خلقه ورعايته منذ قرابة نصف قرن، هو من يدفع باتجاه الحرب؟
ثم تتهم المغرب (بدون دليل مُقنع) بقصف ثلاث شاحنات جزائرية وقتل سائقيها، مطلع الشهر الجاري وتهدده مرة أخرى بالحرب. وكل “دليل” اتهامها هو صور لهياكل شاحنات محترقة (وليس مضروبة بصواريخ متطورة)، سبق نشرها على بعض المواقع شهرين قبل تاريخ الحادث المزعوم!
العداء لن يخمد قريبا!
في معرض تفسيره لما يصدر من وقت لآخر من أطراف الحكم في الجزائر، من اتهامات وحتى تهديدات للمغرب، رأى الديبلوماسي الجزائري الأسبق والناشط الجزائري الشهير المعارض حاليا محمد العربي زيتوت، أن «العداء للمغرب بات يعتبر عقيدة بالنسبة إلى كل من الجيش ووزارة الخارجية في الجزائر». ومعنى ذلك أن محاولة إثبات أحد المنتسبين إلى هذين القطاعين لوطنيته، من باب المزايدة أو بحثا عن ترقية، تمر بالضرورة عبر إظهاره العداء للمغرب. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، إذ ليس ثمة من خطوط حمراء ولا صفراء، ينبغي التوقف عندها من باب التحوط من استفزاز الجيران. طبعا يتعلق الأمر هنا بأعراف جرت مجرى القواعد الثابتة، وليس بقوانين منصوص عليها أسودا على أبيض. والنطاق يتسع أكثر ليشمل قطاعات أخرى هامة، يعتبر العداء للمغرب بالنسبة إليها عقيدة ومجال اشتغال يومي، وعلى رأسها الإعلام. غير أن عقيدة العداء للمغرب تتخذ في حالة المؤسسة العسكرية أبعادا مخيفة، بالنظر إلى أدوار هذه المؤسسة وامتدادات تأثيرها الكبير في كل مفاصل الدولة الحيوية والمختلفة.
ويدفع ذلك كثيرا من المتحمسين المغاربة لمبدأ الـ “خاوة.. خاوة”، إلى التفاؤل خيرا من وراء زخم القوى المدنية والسياسية الجزائرية الرامي في إطار “الحَراك” إلى إقامة دولة مدنية في الجزائر. ففي تصورهم أن خلاص الجارة الشرقية من 60 عاما من حكم العسكر، من شأنه أن يدشن لعلاقات ودية وطبيعية مع المغرب. بيد أن هذه النظرة التبسيطية المُغرقة في التفاؤل، تقفز على كثير من الحقائق التي تؤشر على أن هذا التغيير صعب. بل لعله ‒من وجهة نظرنا‒ أقرب ما يكون إلى المستحيل، على الأقل في الأمد المنظور.
لنتذكر في هذا الصدد أنه في فبراير 2019، أي شهرين قبل تنحي الرئيس الجزائري المريض عن الحكم، صدح آلاف المتظاهرين “الحَراكيين” الغاضبين بالجزائر العاصمة، بشعار عنصري صادم قائلين: “بوتفليقة يا المروكي مكاينش عهدة خامسة” (أي: بوتفليقة أيها المغربي، لن تكون لك عهدة رئاسية خامسة). قد يقول قائل إن الأمر يتعلق بحراك شعبي لا سلطة لأحد عليه، ومن الوارد جدا أن تخترقه شعارات غير لائقة. لكن ما هو أكثر بلاغة أنه لا أحد من الرموز المعروفة للحَراك (كريم طابو، فوضيل بومالة، مصطفى بوشاشي…) نأى بنفسه عن تبني هكذا شعار عنصري، يُشهر العداء للمغرب في مسيرات احتجاجية!
ومعنى ذلك ‒في نظر كاتب هذه السطور‒ أنه حتى لو نجح “الحراك” أو غير الحراك غدا في فرض نظام مدني (أو عسكري يقوده “الجنرالات الشباب”) في الجزائر، وهو أمر يبدو في غاية الصعوبة لأسباب موضوعية وذاتية عديدة، فإن العلاقة مع المغرب ستظل محكومة بعقيدة العداء نفسها التي تحدث عنها زيتوت أعلاه. لأن مؤسسات الدولة الجزائرية صارت مهيكلة على نسقها، وبالتالي فإن أقصى ما يمكن أن يأمله المتفائلون من الجانبين، هو أن تعود العلاقات بين الجارين اللدودين إلى ما كانت عليه خلال الرئيس بوتفليقة لا أكثر!
تعليقات ( 0 )