بينما كان الاقتصاد المغربي يتجه نحو التعافي من الخسائر التي تكبدها بسبب وباء كورونا، تتعمق الأزمة من جديد وبحدة أكبر بسبب موسم الجفاف، الذي وصفته وزارة الزراعة الأمريكية بأنه “استثنائي. فأغلب السدود الكبرى لم يتبق فيها سوى الطمي، والماء غار عميقا بعشرات الأمتار بحيث لم تتبق متاحة سوى الفرشات المائية “الاستراتيجية”. ومع ذلك لا يتورع بعض أثرياء الفلاحين في شفط مائها لرعاية مشاريعهم.
في ظل هذه المؤشرات المخيفة، تواصل السلطات التعامل مع تداعيات الجفاف كأنها مجرد أزمة “استثنائية. فتتبنى الحكومة حلولا ترقيعية ظرفية، على أمل أن يكون العام الموالي مطيرا. بينما تشير تقارير المراجع الدولية المتخصصة إلى أن الجفاف بالمغرب أصبح معطى هيكليا، لن يتوقف عن الاستفحال والإضرار بالمغرب واقتصاده، على الأقل حتى نهاية القرن الحالي!
ويساهم الإنتاج الفلاحي في المغرب بنسبة 14 بالمئة من الناتج الداخلي الخام. وكانت الحكومة قد بنت توقع نمو الناتج الداخلي الخام بنسبة 3,2% على فرضية إنتاج 70 مليون قنطار من الحبوب كمعدل لسنة عادية. واليوم، حيث إن الإنتاج الفلاحي سيعرف تراجعا، فذلك سيؤثر على معدل نمو الناتج الداخلي الخام الذي سيتراوح ما بين 1,5 و2,2 بالمئة.
ولأن قطاع الفلاحة في المغرب يُشغل 1 من أصل كل 3 عمال في البلاد، كما يعتمد المغرب على صادرات المنتجات الزراعية لدعم الاقتصاد؛ فمن المتوقع أن يؤثر الجفاف بالدرجة الأولى على حوالي 45 بالمئة من سكان المغرب، الذين يقطنون في العالم القروي. إذ سيعانون من ارتفاع معدلات البطالة والفقر، خصوصا في الأراضي البورية التي تعتمد كليا على هطول الأمطار. وعلى سبيل التذكير، تمثل الأراضي البورية ما بين 70 و80 بالمئة من مجموع الأراضي الفلاحية المنتجة للحبوب في المغرب.
البوادي تتألم بشدة
وفي وقت شرعت السلطات في توزيع الشعير على “الكسابة” ببعض جهات المملكة، اشتكى فلاحون من قرية بني كلة الواقعة شرق مدينة وزان لمراسل وكالة رويترز الأسبوع الماضي، من أن حقولهم المزروعة بالفول والقمح قد جفت و”المغروسات ذابلة تكاد تموت”. وقال آخرون إن القطاني التي زرعوها لم تنبت بسبب شح الأمطار. وأوضحت قروية تبلغ من العمر 69 عاما لنفس المصدر بأن “هذه أسوأ أزمة جفاف. صحيح أن العام 1981-1982 كان جافا، لكن المياه الجوفية كانت لا بأس بها، وكنا نسقي. أما الآن فنخاف أن نسقي بعض المزروعات فنبقى دون ماء للشرب، فالوادي بقريتنا جف ومنسوب مياه البئر التي نرتوي منها نقص أيضا”. وكشف المصدر نفسه بأن قروية اشترت نعجة حبلى بـ 500 درهم وهو ثمن جد بخس، واعترفت بأنها في السابق لم تكن لتشتريها بأقل من 1700 أو 1400 درهم، موضحة بأن المواشي رخيصة حاليا بسبب التخوف من نقص الأعلاف نظرا لقلة الأمطار.
وفي “عزبان لكَرينات”، هو دُوَّار يقع بجماعة انزالت لعظم التابعة لإقليم الرحامنة (47 كيلومترا شمال مراكش)، كشفت مصادر خاصة لـ “ميديا90″، بأن الجفاف الحاد بات يدفع الفلاحين الفقراء إلى الهجرة إلى المدن، في غياب أي بديل آخر.وكشف فلاحون متخصصون في زراعة الفصة بأنهم سبق أن عانوا من الجفاف مرات عديدة من قبل، لكن ليس بهذه الشدة. ويؤكد بعضهم أنهم لم يروا قطرة مطر منذ بداية العام، في وقت تعتمد المنطقة على الفلاحة البور المعتمدة على ما تجود به السماء فقط كمصدر للدخل. ويشكون من عدم توفر المياه بكميات كافية حتى على عمق 130 مترا. وقال مربون للماشية بدوار “عزبان لكَرينات”، إن الماشية لم يتبق لها سوى القليل الماء لتشربه. وبحسب مصادر من مجلس بلدية “انزالت لعظم” إن المزيد والمزيد من السكان يغادرون القرية بسبب الجفاف، وإن الأمر بات يتعلق بـ “ظاهرة هيكلية بسبب سنوات الجفاف المتعاقبة، على الرغم من الجهود الكبيرة التي تبذلها الدولة لتحقيق الاستقرار السكاني من خلال الإمداد بمياه الشرب”.
في غضون ذلك، حذر تقرير “جراوندسويل” الصادر عن البنك الدولي، من أنه إذا لم يتم التدخل بشكل مستعجل فإن 5,4 بالمئة من إجمالي سكان المغرب، أي حوالي 1,9 مليون نسمة، سوف يهاجرون من المناطق القروية إلى المدن.
تحدي توفير الغذاء
في أفق حصيلة سلبية من الحبوب هذا العام، وفي سياق أزمة المواد الغذائية العالمية التي سبقت وواكبت الحرب في أوكرانيا، تقول الحكومة إنها اتخذت احتياطها واقتنت ما يكفي من الحبوب. لكن إذا ما أخذنا بالاعتبار تواضع إمكانيات التخزين، نستطيع أن نتخيل أن المخزون المتوفر لن يفي بحاجة المغاربة لأبعد من بضعة شهور. والحال أننا نجتاز سنة فعلا استثنائية أصبح فيها القمح اللين مادة نادرة في الأسواق. فمنذ أيام، ألغت مصر (وهي أكبر مستورد للقمح في العالم) للمرة الثانية مناقصة أعلنتها لشراء بضعة مئات الآلاف من القمح، بسبب عدم توفر معروض. ويعني ذلك أنه في حال طالت الأزمة الأوكرانية، فإن الحبوب ستزيد شحا في الأسواق الدولية، سيما وأن كثيرا من الدول المنتجة للحبوب تشهد موجات جفاف خلال السنة الجارية.
إلى جانب ذلك، ارتفعت أسعار بيع الخضر والفاكهة التي تنتجها الحقول والضيعات المغربية، بسبب الجفاف وكثرة الوسطاء المتدخلين في تسويقها. كما ارتفعت غالبية السلع الغذائية الأساسية، ما نتج عنه تراجع الإقبال على استهلاكها محليا. ويعتبر زيت المائدة أبلغ نموذج على ذلك. فقد قالت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) الأسبوع الماضي، إن مؤشر أسعار الزيوت النباتية هو الذي قاد ارتفاع أسعار المواد الغذائية عالميا في يناير الماضي، ليواصل ارتفاعه إلى أعلى مستوياته خلال العشر سنوات الأخيرة. وهو ما أثر على أسعار بيع زيوت الطبخ في السوق المغربية، حيث إن غالبية الكميات المستهلكة بكثرة (خصوصا زيت نوار الشمس وزيت الصوجا) يتم استيرادها من الخارج.
ونتيجة لارتفاع ثمنها وتدني القدرة الشرائية لدى المستهلك المغربي، تقول بعض المصادر المطلعة إن استهلاك زيوت الطبخ تراجع لدى الأسر المغربية بنسبة تقارب 25 بالمئة. وتقول ذات المصادر أن هذا التراجع ليس ناتجا عن “حملة لمقاطعة” هذه المنتوجات الحيوية لدى المستهلك المغربي، بل بسبب غلاء أسعاره؛ ما جعل باعة المواد الغذائية بالتقسيط لا يقبلون على اقتنائه من موزعي الزيوت بسبب ضعف هامش الربح. ويعني هذا التراجع بالأساس أن حصة استهلاك المغاربة من الزيوت الغذائية قد تراجعت نتيجة لغلائها. كما أن بعض الصناعات الغذائية التي تدخل الزيوت في إعدادها (مصبرات السمك مثلا)، شرعت في إغلاق أبواب مصانعها. بل وتشتكي شركات صناعة وتسويق الزيوت نفسها من تراجع أرقام معاملاتها، بسبب تراجع الإقبال عليها، في غياب أي دعم عمومي لأسعار بيعها.
الجفاف هيكلي في المغرب وليس “استثنائيا”!
يشكل تغير المناخ على الدوام، إحدى الإكراهات الأساسية أمام تنمية القطاع الفلاحي بالمغرب. وفي هذا الصدد، تشير سيناريوهات التغيرات المناخية إلى أن مناخ المغرب سيصبح قاحلا أكثر خلال السنوات وتاعقود المقبلة، بسبب قلة التساقطات المطرية والثلجية، من جهة، وارتفاع درجات الحرارة وتواتر الظواهر الطبيعية الحادة المتكررة، من جهة أخرى. ومن شأن هذا التوجه المناخي الطبيعي أن يؤثر سلبيا على الموارد المائية، وعلى التنوع البيولوجي وكذا على عموم المشهد الفلاحي الوطني.
وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن المغرب عرف خلال الـ 70 سنة الأخيرة عشرين موسم جفاف.
وكان البنك الدولي قد حذر ، في إحدى دراساته، قبل أكثر من عام، من موجة جفاف سيعيشها المغرب خلال السنوات المقبلة مصحوبة بموجة عطش وانعدام للأمن الغذائي. وأضافت الدراسة بأن القطاعات التي ستتضرر نتيجة لذلك بشكل كبير، هي الزراعة والمياه والطاقة ومصايد الأسماك والغابات والصحة. وأشار البنك الدولي إلى أن سبب هذه الموجة يكمن في انخفاض في متوسط هطول الأمطار بنسبة 10 إلى 20 في المائة، مع ارتفاع درجات الحرارة بالمقابل؛ وهو ما سيؤدي إلى تسريع معدل التبخر. وأوضحت الدراسة نفسها بأنه من المتوقع أن يرتفع متوسط درجة الحرارة السنوية بمقدار 1,5 إلى 3,5 درجة مئوية بحلول منتصف القرن الحالي، وربما أكثر من 5 درجات مئوية في نهايته، متوقعة أن تكون الوتيرة أسرع داخل البلاد.
لكن الظروف الطبيعية ليست وحدها المسؤولة عن ندرة المياه المتفاقمة بالمغرب. فوفقا للدراسة ذاتها، يكمن السبب أيضا في سوء تدبير المياه وممارسات اتخاذ القرار. وبالإضافة إلى ذلك، من المرجح أن تؤدي الزيادة الإضافية في درجات الحرارة إلى انخفاض كتلة الجليد في جبال الأطلس، ما سيكون له تأثير على إمدادات المياه على مستوى الأنهار والبحيرات. وبحسب دراسة البنك الدولي دائما، سيزداد التبخر أيضا وستنخفض رطوبة سطح التربة، وسيكون النقص في مياه الري أكثر حدة في المناطق القاحلة في الجنوب.
سنة صعبة.. شتاء جاف وسدود بأقل من 10% من حقينتها وغلاء “يكوي” الجيوب

تعليقات ( 0 )