بعد مرور عام على أزمة الكركرات تقف أطراف نزاع الصحراء على حصائد مكاسبها وإخفاقاتها فيها. فمنهم من يقرع طبول احتفاله بنصره وجني ثمار حكمته وجدية اشتغاله على كسب النزاع. ومنهم من لم يتعلم بعد من إخفاقاته وفشله على مدار نصف قرن، وما زال يقرع طبول حرب لم يربح منها غير مزيد من الخسائر على كافة الصعد. فالمغرب لا يحتاج المراقب عناء جهد لاكتشاف الأريحية التي هو عليها، ولعل من أبسطها أنه مر عام دون أن نسمع أو نرى وقفة احتجاجية ولا علما للبوليساريو في ما كان يسمى بقندهار أو منطقة الكيلومترات الفاصلة بين المعبر الحدودي المغربي والموريتاني. ويشهد به استقرار سوق الطماطم والجزر في نواكشوط عاصمة موريتانيا البعيدة عن الكركرات. أما البوليساريو، فبالإضافة لسوء تقديرها وتهورها اللذين كلفاها خسارة المنطقة العازلة، التي كانت تفصل المغرب عن عمقه الإفريقي، فقد أظهرت من خلال إدارتها لما بعد الكركرات أنها تفتقر لعقيدة عسكرية واضحة ومستقلة. وأنها لم تكن محتاطة لاحتمالية العودة إلى الحرب التي أعلنتها ضد المغرب. وتأكد أيضا أنها كانت تعيش خارج الزمن على أوهام الماضي والاتكالية التي تعودت عليها، عندما كان العالم منقسما بسبب الحرب الباردة والجبهة تتلقى الدعم السخي المجاني تسليحا وتدريبا، من نصف العالم الشرقي حينها، وكانت تتحمل تسديد الفواتير كل من الجزائر وليبيا في زمن البحبوحة النفطية.
متغيرات نزاع الصحراء
هكذا، وبينما جدد المغرب في خطاب المسيرة الأخير التزامه باتفاقية وقف إطلاق النار، والانخراط في التسوية السياسية التي تشرف عليها الأمم المتحدة، وتوجهه نحو مزيد من التنمية في الأقاليم الصحراوية الجنوبية، يصر خصومه على استمرار حالة التوتر والتهديد بتنشيط وتوسيع حربهم المعلنة على المغرب منذ عام. وبعد صدمة مجلس الأمن مؤخرا، التي أكدت للجزائر والبوليساريو أن لا أحد في المجتمع الدولي يؤيد أطروحتهما ويدعم توجهاتهما نحو التصعيد، أصبح تدخل الجزائر المباشر في الحرب لصالح البوليساريو مكلفا سياسيا (داخليا وخارجيا)، إضافة لكونه غير مضمون النتائج.
ولأنه من المستبعد أن تسلم الجزائر بالهزيمة أمام المغرب، وبعد فشل حربها الاقتصادية والديبلوماسية المعلنة والخفية منذ اندلاع أزمة الكركرات، فلم يبق أمامها غير محاولة إعادة تأهيل الجبهة عسكريا، لتكون قادرة على الإخلال بالاستقرار في المغرب كما كان الأمر عليه في السابق. هذا التأهيل يحتاج من البوليساريو إلى إصلاحات جذرية على مستوى بنيتها العسكرية وتغيير استراتيجيتها العسكرية، التي اعتمدت في حربها الأولى التي ثبت فشلها منذ الأشهر الاولى من إعلانها التنصل من اتفاقية وقف إطلاق النار، أمام السيطرة التامة لسلاح الجو المغربي على كامل أجواء الإقليم، واعتماده استراتيجية الحرب الاستباقية (تحييد الهدف قبل أن يشكل خطورة). خاصة وأن المناطق شرق الحزام أغلبها صحراوية مكشوفة، لا يوجد بها غطاء نباتي كثيف ولا مناطق جبلية وعرة.
ولكي تبقى قوات البوليساريو شرق الحزام، وتستطيع تنفيذ هجمات ضد القواعد المغربية من جديد، فإنها تحتاج إلى أن تختبئ تحت الأرض وتتدرب وتألف العيش تحت الأرض. وهو وضع عسكري مغاير تماما لما تعرفه قواتها. وإن كانت مناطق شمال الصحراء(زمور) الممتدة من الحدود الجزائرية إلى منطقة مهيريز، يمكن أن تشكل أوديتها الضيقة وغطاؤها النباتي وكثرة مرتفعاتها وقرب بعضها من الحزام الدفاعي، بيئة مناسبة للاختباء وتشييد التحصينات خلافا لمناطق تيريس الجنوبية المكشوفة كلها.
لكن التكيف مع أسلوب حرب التحصينات والمخابئ يحتاج جهدا ووقتا، وبالأخص خبرة لا تمتلكها حتى الجزائر الحليفة والداعمة الرئيسية للبوليساريو. لذلك يصبح طرق باب الإيراني أقرب احتمال، إذا ما أخذنا في الحسبان أن أسلوب حرب الأنفاق والمخابئ اشتهرت به حديثا أذرع إيران في مناطق نفوذها وخاصة في لبنان وفلسطين واليمن، حيث يحارب حلفاء إيران في مساحات ضيقة وفي مناطق تخضع لجميع أشكال المراقبة تجعل درجة الخطر بها عالية؛ كما هو حال المناطق الصحراوية شرق الحزام بعد 13 نوفمبر2020.وهو ما يقوي فرضية لجوء البوليساريو لطلب العون من إيران، رغم ما في ذلك من مجازفة من احتمالية تصنيفها في لائحة الارهاب.
هل تلوذ الجبهة بإيران؟
إن البوليساريو لم يعد لها ما تخسره سيما وأن العامل السياسي يشجعها على هكذا مسعى، باعتبار المغرب محسوبا على الحلف العربي المناهض لسلوكيات إيران في المنطقة العربية، وكون العلاقات بين البلدين (المغرب وإيران) مقطوعة منذ فترة؛ والجزائر في هذه الظرفية تحتاج إلى حلفاء حتى ولو كانوا شياطينا حمرا، وتتقاطع في سياستها الخارجية في كثير من القضايا مع إيران.
لقد ظهرت مؤخرا مؤشرات على تغير في تفكير قيادة البوليساريو، وتوجهها نحو تحديث المؤسسة العسكرية للجبهة وتشبيبها والنأي بها عن التجاذبات السياسية، وعن صراعات أجنحة السلطة في الجبهة. وهو ما يوحي بأنهم بصدد التهيؤ للحرب من خلال تغيير أساليبهم القتالية للتوجه نحو الحرب الحديثة.
فلأول مرة منذ نشأتها قبل نصف قرن تغلب البوليساريو عامل الكفاءة والخبرة على العامل السياسي في تعيينها لقائد الحرب. فقد ظل هذا المنصب على مدار النصف قرن الماضي حكرا على قبيلة الرقيبات، التي يشكل أبناؤها الأغلبية في جيش الجبهة ووسط سكان مخيماتها. لكن البوليساريو عينت مؤخرا محمد الوالي اعكيك المنحدر من قبيلة أزركَيين، لأنه المتبقي الوحيد من قادة نواحي الحرب الأولى، ولأنه أمضى فترة ليست بالقصيرة مديرا لمخابرات الجبهة وله بالتالي دراية تامة بآليات التواصل والتنسيق مع العسكر الجزائري.
والمؤشر الثاني هو قفز زعيم الجبهة إبراهيم غالي على عوامل التراتبية والأقدمية، وحتى على التجربة القتالية، في تعييناته الأخيرة في المؤسسة العسكرية للجبهة. فلم يرق أي من قادة الفيالق الذي شاركوا في الحرب الأولى إلى مناصب قادة للنواحي العسكرية، بل عين كل أركان نواحيه القتالية والتدريب من جيل الشباب المخضرم المتكون من خريجي المدارس العسكرية. وأغلبهم لم يشارك من قبل في معارك الحرب الأولى. وهذا يعني أن الجبهة قطعت مع أسلوب حربها القديم، وتريد استحداث أساليب جديدة. فمجموعة قادة حرب البوليساريو الجديدة تتميز بالتكوين والانسجام فيما بينها وبينها وبين القيادة العليا، وبالانضباط خلافا لقادة الحرب الأولى الذين كانوا أكثر استقلالية وأقل تكوينا وانضباطا وانسجاما.
ويتمثل المؤشر الثالث في تعيين المقربين من الجزائر الحاملين لجنسيتها، في مواقع التنسيق والتعاون والإدارة والأمن العسكري، لضمان مرونة التواصل اليومي للجبهة مع الجانب الجزائري.
هل تدفع متغيرات نزاع الصحراء جبهة البوليساريو إلى الحضن الإيراني؟

تعليقات ( 0 )