طارت الآلــة الإعلامية الجزائرية فـــرحا وهللت بزيارة الرئيس الإيطالي للجزائر يومي 6 و7 من نوفمبر، فالنظام يعيش شبه عزلة سياسية، إذ تعتبر زيارة الرئيس الإيطالي سيرجو متاريلا أول زيارة رئيس دولة أوروبية للرئيس عبد المجيد تبون، كما أنها جاءت بعد 18 سنة على آخر زيارة لرئيس إيطالي للجزائر…
وقد تزامنت الزيارة مع الجرح العميق الذي خلفته تصريحات الرئيس الفرنسي بخصوص الذاكرة التاريخية للجزائر وقبله بصدور تقرير بنجامين ستورا “ذاكرة الاستعمار والحرب الجزائرية” في يناير 2021، ورفض مؤرخي الثكنات العسكرية الجزائرية لتقرير المؤرخ “ستورا” تارة بدعوى أنه يتماهى مع توجه اليمين الفرنسي، وأخرى أنه يخدم أجندات انتخابية..
لكننا نعتقد أن النظام الجزائري قد خرج بأهداف الزيارة الاقتصادية والسياسية والإعلامية… إلى التوظيف التاريخي لإيطاليا ولأحد أهم شخصيات ما بعد الحرب العالمية الثانية في إطار صراعها حول الذاكرة التاريخية المشتركة مع فرنسا… وذلك من خلال تصريحات الرئيس الجزائري ” تبون ” بإعجابه بالنموذج الاقتصادي الإيطالي .. وأيضا من خلال إطلاق اسم “إنريكو ماتي” على حديقة جزائرية ووصفه بصديق الثورة الجزائرية، هذا دون الحديث عن الهدية الأخرى الحصان البربري الأصيل ” فــــولاذ ” وإسقاطات التشبيه مع حصان نابوليون بونبارت…
كما نعتقد أن هذا التوظيف السياسي لشخصيات تاريخية إيطالية قد شابه الكثير من التعتيم والتقزيم بوصف “إنريكو ماتي ” بصديق الثــورة الجزائرية فقط .. فكيف كانت ستكون مجريات أحداث الثورة وقادتها وجمهوريتها المؤقتة بالمنفى ومشاورات “إفيـــان” في غياب شخصية من وزن “إنريكو ماتي”…؟
لقد ارتبط اسم ” إنريكو ماتي ” باسم شركة المحروقات الإيطالية “إيني ” إذ يعتبر مؤسس ومهندس السياسة الطاقية بإيطاليا بعد ماضي ضمن صفوف مقاومة الفاشية والنازية بإيطاليا ومسار سياسي متميز ضمن التيار الديمقراطي الكاثوليكي..
” إنريكو ماتي ” كان يحمل تصورا جديدا عن أهمية الاستقلال الطاقي الذي يضمن الإقلاع الاقتصادي واستقلال القرار السياسي خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، كما كان يحمل تصورا تعاقديا جديدا بعيدا عن المعادلات الاستعمارية بين الدول الغنية بالبترول والغاز والشركات المنتجة التابعة للدول الغنية…
“إنريكو ماتي ” ربط العلاقات مع كل الدول الغنية بالبترول بعيدا عن الأيديولوجيات والخلفيات السياسية من إيران والأردن ومصر وتونس وليبيا والمغرب إلى الاتحاد السوفياتي والصين.. وهو ما جلبه الكثير من المتاعب خاصة من محور الغرب اللبيرالي… وهو ما مكنه من تكوين شبكة علاقات وصداقات قوية داخل دوائر نافذة في السياسة والإعلام ومصادر القرار..
اعتقد ان الثورة الجزائرية كانت محظوظة باندلاعها في مرحلة انتقالية عالمية تميزت بصراع ايديولوجي قوي بين قطبي الليبيرالية والاشتراكية ( الشرق والغرب ) وخلق منظمة عدم الانحياز سنة 1955 ( الشمال والجنوب ) وتداعيات العدوان الثلاثي سنة 1956 وخلق المجموعة الاقتصادية الأوروبية ( معاهدة روما 1957 )…و اكتشاف حقول البترول والغاز بالجزائر سنة 1954 و1956..وخلق منظمة الدول المصدرة النفط ( opec) في دجنبر 1960…
كما نعتقد أن الثورة الجزائرية كانت محظوظة بتبنيها من طرف مفكرين وكتاب كبار محسوبين على التيار الاشتراكي او من مناصري قضايا العالم الثالث ويكفي ان نذكر ببعضهم كبول سارتر وفوكو وفرانتز فانون من فرنسا، والمحامي سيرج مورو ولوك سومرهاوزن والأساتذة لابيرش ولي غريف من بلجيكا، وميشيل رابتيس وسال سانتيم من هولنذا، وإطلاق جريدة ” الجزائر حرة ” في كل من الدانمارك وبريطانيا وألمانيا، واهتمام كبير من طرف صحافيين من سويسرا وغيرهم…
لكن الثورة الجزائرية كانت محظوظة أكثر بتواجد شخصية من عيار “إنريكو ماتي” والذي وفر لها الدعم المالي والغطاء السياسي والإعلامي…حيث كان يتنقل قادة الثورة الجزائرية بكل سهولة في إيطاليا ويحصلون على التأشيرات وتراخيص الإقامة، كما كان يشارك ممثل الثورة الجزائرية بروما “الطيب بولحروف ” في ندوات السلام المنظمة من طرف البرلماني وعمدة فلورانس “جورجو ببيرا ” سنوات 1958 و1960 و1960..
وبالإضافة إلى إصدار جرائد إيطالية يومية فقد تكلف الناشر الإيطالي الكبير “جاكوم فيلترنيلي” بنشر العديد من كثب الثورة وترجمتها إلى الإيطالية خاصة كتب الطبيب النفسي والكاتب الفرنسي “فرانتز فانون “…
أكثر من هذا، فإن “إنريكو ماتي” التقى شخصيا أكثر من مرة بقادة الصف الأول للثورة الجزائرية سواء في إيطاليا او سويسرا أو مصر ونذكر منهم سعد دحلب ويوسف بن خدة وعبد الحفيظ بوصوف وفرحات عباس واحمد فرانسيس ومحمد يزيد ومحمد بن يحيى والطيب بولحروف واحمد بومنجل … وهي أسماء لها وزن كبير في جزائر الثورة وبعد الثورة..
كان بمثابة الأستاذ الملهم خاصة في مجال الطاقة والمحروقات والمعاهدات والاتفاقيات…لذلك كلف الصحفي ومساعده المقرب “ماريو بيراني” بالإقامة في تونس في يناير 1962 وتقسيم المجموعات بين الملفات السياسية وعلاقات الأورومتوسطية أي مجموعة عبد الحفيظ بوصوف وكريم بلقاسم ومحمد بن يحيى، والملفات التقنية مع مجموعة ” المالغ ” وملف المحروقات أي مجموعة رضى رحال ومحمد خالدي وقصدي مرباح ومحمد حرمة كروحة…
وهي اللقاءات التي جعلت الوفد الجزائري في مفاوضات ” إفيان ” وغيرها .. أكثر استعدادا وإلماما بملفات المحروقات أثناء المفاوضات حول الصحراء والتي حاول الجانب الفرنسي استثنائها من المفاوضات..
صحيح أن “إنريكو ماتي ” كان يسعى الى تامين مصادر الطاقة لبلده الخارج للتو من حرب عالمية مدمرة وكان يسعى الى التحرر من قبضة الشركات العالمية (كارتيل)، لكنه رفض الدخول في اتفاقيات تخص بترول الجزائر قبل إعلان الاستقلال، لأنه كان يريد التفاوض مع الثوار الجزائريين..
لكن موته المفاجئ بعد تحطم طائرته في 27 أكتوبر1962 أي بعد شهور قليلة من نيل الجزائر لاستقلالها، حال دون تحقيق أحد أحلام “إنريكو ماتي ” أي أنبوب غاز يمر عبر المغرب واسبانيا وفرنسا وإيطاليا، وتم الاكتفاء بأنبوب إيطاليا عبر تونس يحمل اسم ” إنريكو ماتي ” سنة 1983..
الملاحظ أيضا أن قادة الصف الأول للثورة الجزائرية سيتم الانقلاب عليهم مباشرة بعد إعلان الاستقلال سنة 1962 وستتم سرقة الثورة وأفكارها والانقلاب على كل المبادئ والالتزامات (أفكار ماتي) أي التعامل جنوب / جنوب…و سيتم إجبار بعضهم على الاعتزال السياسي وخرق علاقات الجوار مع كل من تونس بالاستيلاء على مناطق شاسعة من صحراءها، والدخول مع المغرب في مناوشات حدودية انتهت بحرب الرمال سنة 1963…
لكل هذا، فقد أخطأ النظام الجزائري التوظيف السياسي بإقحام شخصية “إنريكو ماتي” في صراع الذاكرة التاريخية المشتركة مع فرنسا، بــــإطلاق اسمه على مجرد حديقة وبـــوصفه صديق للثــــورة فقط … في حين أن الرجل يستحق أكثر من ذلك فقد قام بتكوين وفـــد الــثوار المفاوض، كما قـــام بتكوين الأطر الجزائرية في مجالات استخراج البترول وتسويقه في معهد خاص بذلك في مدينة ميلانو الإيطالية… لكن ماذا ننتظر من نظام عسكري انقلب على الجيران وعلى الجيل المؤسس وعلى القادة الأصليين للثورة الجزائرية أمثال فرحات عباس وبن خدة واحمد بومنجل ودحلب وغيرهم…؟ رحم الله شهداء الثورة الجزائرية العظيمة…
تعليقات ( 0 )