الأزمة الإسبانية المغربية.. ما الذي منع مدريد من السير على خطى برلين في “المصالحة”؟

الجارة الشمالية لم تتقبل الانقلاب الجذري في موازين القوى الإقليمية

 
تَعتبر العقيدة الدفاعية الرسمية لإسبانيا المغربَ بمثابة التهديد الأمني ​​الأكبر لها. ليس فحسب بسبب ثقل مخلفات التاريخ المشترك، بل وأيضا بسبب تضارب طموحات ومصالح البلدين. فإذا كانت إسبانيا تعد بوابة عبور لإفريقيا إلى أوروبا، فإن المغرب هو بوابة عبور أوروبا إلى إفريقيا. وعلى هذا الأساس، يمكن فهم عمق الأزمة العميقة والمستفحلة التي أطلقها استقبال إسبانيا لزعيم البوليساريو في أبريل الماضي.
 
وبالنظر إلى استحالة الإحاطة بمختلف أوجه الأزمة المعقدة، بين إسبانيا والمغرب في مقال، نرى من الأجدى الوقوف عند أبرز التحولات الاستراتيجية التي لابست العلاقات بين البلدين، بدل التذكير بمحطات الأزمة التي بات الجميع يعلمها.
“المغرب ليس دركيا لأحد”!
لقد جرّت استضافة إسبانيا لزعيم انفصاليي البوليساريو، من أجل العلاج الطبي باستخدام هوية مزورة، عليها غضب المغرب في أبريل 2021. لكن تلك الخطوة لم تكن في الواقع سوى نقطة في كأس امتلأ عن آخره، بالتجاوزات التي فضحت نفاق “حسن الجوار” الإسباني. لعل أولها كان معارضة إسبانيا لقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، القاضي بالاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه. حيث لم تكتف بالمعارضة بالرفض، بل قامت بحملة في الاتحاد الأوروبي رفقة ألمانيا، لاعتراض أية مبادرة فرنسية محتملة، قد تجر دولا أوروبية إلى أن تحذو حذو واشنطن. وبرأي مراقبين، كان هذا هو السبب الذي لم تغفره الرباط لمدريد، بحكم أن المغرب كان يرى في الاعتراف الأمريكي بداية نهاية النزاع الذي استغرق عقودا طويلة.
وكرد قوي من جانبه، قام المغرب بالنأي بنفسه عن مراقبة الحدود الاستعمارية مع سبتة ومليلية المحتلتين، وسيما في منتصف مايو الماضي عندما تسلل إلى المدينة أكثر من 10 آلاف مغربي بينهم ألفا قاصر. وتعليقا على الاحتجاج الإسباني، رد المغرب بأنه “ليس دركيا لأحد”. ثم لا ذلك سحب السفيرة المغربية كريمة بنعيش من مدريد “للتشاور”.
ولأن مدريد ‒كالعادة‒ لم تستطع مواجهة المغرب بمفردها، فإنها لجأت مرة أخرى إلى تحريك البرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية، لحثا عن إدانة جماعية لـ “التصرف المغربي” غير المقبول. فاصطف الاتحاد ‒دون مفاجأة‒ إلى صف عضوته، ليعيد التعبير على أن سبتة ومليلية المحتلتين هي أراض تقع عند حدود الاتحاد الأوروبي الجنوبية [كذا].
إن جوهر الخلاف يتمثل في أن الأوروبيين عموما والإسبان خصوصا ما زالوا يرفضون الاعتراف بالمغرب كقوة إقليمية صاعدة في المنطقة، وجب التعاون معها على أساس الندّية بدلا اعتبارها “مجرد دركي تابع” يتلقى أوامره من بروكسيل. وفي ضوء ذلك، أصبح المغرب يربط مشاركته في ضبط الهجرة غير الشرعية، بقضاياه الاستراتيجية، وفي مقدمتها ضرورة اعتراف الأوروبيين بسيادته صحرائه، وذلك تماشيا مع تغير ميزان القوى لصالحه. وهو ما تستميت الجارة الشمالية، ومعها “الشركاء” الأوروبيين للمغرب، في الاعتراف به بعد.
فكيف إذن تغيرت موازين القوى بين الرباط ومدريد؟
 
انقلاب ميزان القوى
لم تستفق بعد الجارة الشمالية من صدمة الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، رغم مرور عام كامل على صدوره. فإسهال تحليلات مراكز التفكير والدراسات كما الإعلام، لم يتوقف على مدى العام الذي مضى وحتى النزع الأخير من 2021، حول تبعات هذا الاعتراف على المنطقة، وبالخصوص تداعياته على العلاقات المتوترة بحدة بين الرباط ومدريد. إن قراءة طريقة التفكير الإسبانية تبدو ضرورية لفهم دوافع المغرب باتجاه التصعيد، وكذا فهم دواعي قيام مدريد بإجراء استفزازي للجانب المغربي، من قبيل استضافة زعيم البوليساريو فوق ترابها الربيع الماضي.
إن إسبانيا لم تكن وحدها المقصودة برسائل التصعيد المغربي. فمن خلال استثمار الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه، سعى المغرب إلى الضغط على الجانب الأوروبي لكي يخرج من المنطقة الرمادية، ويغير موقفه من النزاع المفتعل حول الصحراء. وذلك ما أكد عليه الملك في خطاب المسيرة، عندما أعلن بوضوح بأن أية علاقات مستقبلية مع المغرب سوف يكون عليها إما أن تشمل صحراءه أو لن تكون من الأساس.
لكن ما صدم جيراننا الشماليين، أن الاعتراف الأمريكي حمل في طياته تراجع أهمية مدريد الاستراتيجية لدى واشنطن. وهو معطى جوهري أكدته الكثير من الوقائع والمواقف الأمريكية طوال سنة 2021، بما لا يسمح المقام بالتوقف عنده بالتفصيل. لكن عموما، وجب التنويه إلى أن المغرب قد اكتسب اعترافا قويا، من دولة كانت في السابق ترجح كفة الإسبان على كفة المغرب في كل أزماتهما الحدودية السابقة. ودون أن نعود التفاصيل، نعيد القارئ إلى ما وقع خلال أزمة جزيرة ليلى في صيف 2002، عندما وجد المغرب نفسه بين فكي كماشة ضغوط الأوروبيين والضغوط الأمريكية لفائدة إسبانيا.
فقوة الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، من منظور الأزمة الحالية، تكمن في تغير نظرة واشنطن للمغرب. ويرتبط ذلك جدليا بتراجع أهمية المحور الأوروبي (وضمنه إسبانيا) في سياسة واشنطن الخارجية. ولذلك تناسلت “التحليلات” الإسبانية حول نوايا مفترضة لواشنطن، بنقل قاعدة “روتا” البحرية الأمريكية من جنوب إسبانيا إلى قاعدة القصر الصغير القريبة من طنجة (وهي المزاعم التي أكدت الأيام زيفها). بالمقابل، زاد حجم مناورات “الأسد الإفريقي” العسكرية، التي جمعت الجانبين الأمريكي والمغربي بينما قاطعها الجانب الإسباني، حيث شهدت مشاركة 7800 عسكري من تسع دول بيها المملكة المتحدة.
وفي ذلك أكثر من رسالة التقطتها مدريد بكثير من التوجس والصمت.
إشكالية الحدود البحرية
لا تقل إشكالية الحدود البحرية بين المغرب وإسبانيا خطورة، عن الأراضي المغربية التي تحتلها مدريد منذ قرون. ولذلك بمجرد اندلاع الأزمة بين البلدين عادت الإشكاليتان معا إلى مربع التوتر. سواء على الواجهة الأطلسية، بسبب تنقيب المغرب عن المحروقات في مياهه الجنوبية المقابلة لجزر الكناري، أو المتوسطية “بسبب” إقدام شركة مغربية على إقامة مزرعة لتربية الأسماك بالقرب من الجزر الجعفرية المحتلة.
هكذا وبعد تأخر دام سنوات، قام المغرب قبل ثلاث سنوات بترسيم حدوده البحرية من طنجة شمالا إلى الكويرة جنوبا؛ بحيث حدد التشريع الجديد بدقة حدوده البحرية، شاملة كامل مياهه الإقليمية والجرف القاري للصحراء المغربية. وهو ما يشكل تهديدا كبيرا لمصالح إسبانيا التي لطالما سعت إلى تمديد نفوذها البحري، باستغلال انشغال المغرب بمواجهة المؤامرات حول صحرائه. على نحو ما حصل عندما أصدرت المرسوم الملكي الإسباني بتاريخ 23 يناير 2002، الرامي إلى إجراء التنقيب عن النفط البحري في المجال البحري بين طرفاية وجزر الكناري. فالحدود البحرية التي تجمع الطرفين لم يتم ترسيمها بسلاسة، بسبب تداخل مناطقهما البحرية للبلدين. وقد انتهك هذا القرار طبعا الجرف القاري للجنوب المغربي. ومع ذلك، فإن المادة 83 من “اتفاقية مونتيغو باي” توصي بتعيين حدود الجرف القاري للدول، التي تواجه سواحلها بعضها البعض انطلاقًا من اتفاق ثنائي. وهو ما لم يحصل.
ومن ذلك أن من أبرز أسباب تجدد الأزمة بين المغرب وإسبانيا، محاولة هذه الأخيرة توظيف ورقة استضافة إبراهيم غالي (في أبريل 2021)، للضغط على المغرب كي لَا يوظف علاقاته بالولايات المتحدة، في اتجاه الدفع بمسار ترسيم حدوده البحرية قدما.
وفي المحصلة، فإن إشكالية الحدود البحرية تعد من أبرز رهانات صراع القوة بين البلدين، وتشرح بالتالي لماذا يستعصي حتى الآن عليهما معاً طَيّ أوراقها. فالذي سيخرج منتصرا منهما من هذه الأزمة غير المسبوقة، هو من سيفرض بقوة الواقع مخططه لترسيم حدوده البحرية على الآخر.

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي