سيناريوهات تخفيض أسعار البترول.. مفترق طرق الحكومة

إذا كان بنكيران ووزيره في الطاقة عبد القادر اعمارة قد اتخذا قرار تحرير المحروقات وقدما للوبيات القطاع هدية ثمينة جعلتهم يراكمون أرباحا خيالية، فإن ولاية عزيز أخنوش شهدت تحطيم رقم قياسي غير مسبوق في أسعار المحروقات، بعدما وصل الغازوال إلى 11 درهما للتر والبنزين إلى 13 درهما.
إلى حد الآن، تبدو الحكومة عاجزة عن اتخاذ أي قرار، بل إنه لا تدرس حتى الإمكانيات المتاحة أمامها، مرسلة إشارة “حرية الأسعار” التي تحولت في واقع الأمر إلى فوضى..ليس فقط لأن الشركات تقوم بتحديد الأسعار بدون حسيب ولا رقيب، بل لأن هذا القطاع في الأصل يعاني من إشكالات منافسة عميقة تجعل مسألة حرية الأسعار غير قابلة للتحقق.
منذ الحكومة السابقة، ومع اشتداد الانتقادات الموجهة لها بسبب غلاء أسعار المحروقات والفضيحة التي فجرها تقرير اللجنة البرلمانية الاستطلاعية، تم طرح مجموعة من المقترحات التي لم تجد طريقها إلى التنفيذ بسبب غياب الجرأة لدى الفاعل الحكومي الذي ظل يلوح بقرار التسقيف إلى أن غادر صاحبه الحكومة بدون حصيلة تذكر.
الضرائب..”شبح” الحكومة
إذا كانت الشركات قد راكمت، بعد قرار التحرير، أرباحا بلغت 17 مليار درهم حسب تصريحات عبد الله بوانو، رئيس اللجنة الاستطلاعية حول المحروقات، فإن الدولة تبقى أكبر مستفيد من هذا القرار..ليس فقط لأنها تجني مداخيل مهمة من الضرائب، بل أيضا لأنها لم تعد مطالبة بضخ مئات المليارات سنويا عبر صندوق المقاصة.
ورغم إن مشكل ارتفاع الأسعار ارتبط –شعبيا-بجشع الشركات وهو الأمر يحمل الكثير من الصحة بسبب الفوضى التي عمت القطاع منذ تحريره، فإن إشكالية الثقل الضريبي في هذا القطاع ترخي أيضا بظلالها على طبيعة الأسعار المفروضة، والتي تصل مستويات قياسية كلما عرفت الأسواق الدولية تقلبات وتوترات.
عموما، يتم تحديد ثمن البيع للمستهلك انطلاقا من مجموعة من التكاليف التي تتحملها الشركات، والتي تهم كلفة التكرير وكلفة الشحن والتأمين وتكاليف الميناء والتخزين والضرائب والإتاوات وتكاليف التوزيع والتقسيط.
فيما يتعلق بالضرائب، تطبق الدولة على المحروقات نوعين من الضرائب، الأولى هي ضريبة الاستهلاك (TCI)، والتي حددت بقانون في 3,764 درهما لتر البنزين و2,422 درهما للتر الغازوال. أما الثانية فهي الضريبة على القيمة المضافة، والتي حددت بقانون في %10 من ثمن الاستيراد. وعموما فإن هذه الضرائب ترقى إلى 37% من تكوين ثمن بيع الغازوال و47% من ثمن البنزين.
ورغم ثقلها الكبير، فإنه مقارنة مع الدول الأوربية فإن النسبة الضريبية المطبقة بالمغرب تبقى متواضعة بالنسبة لدول أخرى إن تصل إلى 66,4% بفرنسا، وتقارب 70 % في المملكة المتحدة والدول الاسكندنافية. غير أن الإشكال يرتبط بالقدرة الشرائية للمواطنين، الأمر الذي يجعل من النسبة المطبقة في المغرب تعكس نوعا من الارتفاع، لاسيما عندما تشهد أسعار المحروقات ارتفاعا في الأسواق الدولية.
لذلك، فإن بعض الدول عمدت إلى إدخال تعديلات على نظامها الضريبي. نذكر مثلا الشيلي، حيث تم تعويض محل صندوق الدعم آلية لتعديل الضرائب غير المباشرة على الوقود لضمان انتقال سلس من الأسعار العالمية المتقلبة إلى الأسعار المحلية. وتخفض الآلية نسبة الضرائب غير المباشرة عندما تتجاوز الأسعار العالمية السعر الوطني المرجعي، وترفعها عندما تنخفض الأسعار العالمية. ويستند السعر الوطني المرجعي إلى التطورات الاقتصادية الحديثة وتوقّعات الأسعار العالمية في المدى المتوسط.
“الهيدجينغ”..تأمين الجيوب
لا خلاف بأن قرار تحرير قطاع المحروقات هو قرار سياسي مشوب بالشبهة، ويشكل بحق جريمة استهدفت جيوب المغاربة من طرف حكومة عبد الإله بنكيران..لكن الواضح أن هذا القرار لم يكن “خطأ في التقدير”، بل جاء في سياق سلسلة من القرارات التي انطلقت منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكومة، وإطلاقه لسلسة من القرارات التي استهدفت المغاربة، وشكلت فيما بعد الرصاصة التي كادت تبعد الحزب بشكل كامل عن المؤسسات المنتخبة.
عندما جاء بنكيران إلى الحكومة، قدم له نزار بركة الذي كان وزيرا للاقتصاد والمالية ملفا ساخنا يرتبط بصندوق المقاصة. 56 مليار درهم هو حجم الدعم الذي خصصته الدولة، منها حوالي 80 في المائة كانت توجه لدعم المحروقات.
لم يتأخر تفاعل بنكيران مع الوضع وسرعان ما ذهب يبحث عن اتخاذ القرارات، والتي كان أولاها التوجه نحو مقايسة الأسعار. في تلك اللحظة، أي ماي 2013، سيقرر حزب الاستقلال الانسحاب من الحكومة، ما يعني ترك نزار بركة لمهامه على رأس وزارة الاقتصاد والمالية، ليتم تعيين عزيز أخنوش وزيرا بالنيابة في هذا الوزارة ويتولى تدبير أحد أكثر الملفات إثارة للجدل.
لم يمر على تكليف عزيز أخنوش في غشت 2013، حتى تم في 5 شتنبر من نفس السنة تنظيم حفل التوقيع على اتفاقيات تقضي بإبرام المغرب لتأمين “هيدجينغ” يمكنه من مواجهة تقلبات الأسعار. في تلك اللحظة، تولت العملية ثلاثة بنوك مغربية كانت توفر هذه الخدمة وهي: البنك المغربي للتجارة الخارجية، التجاري وفا بنك، والبنك الشعبي.
حسب مصادر مقربة من الملف فإن الكلفة بلغت آنذاك حوالي 4 مليارات درهم. هل تستطيع الدولة اليوم تحملها من أجل مواجهة ارتفاع الأسعار دوليا؟ عموما، فلكل إجراء كلفته. فإذا كان القرار هو التوجه نحو سن إجراءات ضريبية، فإن الكلفة ستكون هي تراجع المداخيل الضريبية. أما إذا اختارت الحكومة نظام التأمين، فعليها أن تؤدي المقابل للأبناك التي ستتولى العملية.
إذا كانت الحلول المقترحة تبدو مؤقتة، فإنه لا مناص اليوم من خلق صناعة محلية قوية لتكرير البترول، وهو الأمر الذي سيمكن المغرب من مواجهة أية تقلبات الأسعار والتحكم في مخزونه الاستراتيجي بشكل أفضل، بدل الوضعية التي نواجهها اليوم والتي لا تتجاوز شراء الشركات للغازوال والبنزين من الخارج وإعادة بيعه للمغاربة.
 

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي