السياسة تختنق في غياب أوكسجين الشفافية

يشعر الكثير من المغاربة بأن الزمن السياسي لم يعد قادرا على مسايرة طموحاتهم المشروعة. ينتشي من تزيد ثروته والزمن متوقف، ويزدهي من تزيد مكانته ارتقاء، والكادحون في معركة ضد الهشاشة. قد يقول المستفيدون أن الكلام لشبه شاعر لم يحتكم لقواعد ميزان الذهب، وكثير منهم سينكرون أن الولوج إلى الحقوق الدستورية أصبح صعب المنال. صدق أحد ممن يقولون أن هؤلاء الذين اقدموا على تملك مناصب المسؤولية بكافة درجاتها لا يعرفون أن في بلادنا مدن صغيرة وكثير من القرى تعيش في زمن غير زمانهم. وقال هذا الصديق أن أكبر مدرسة أو ” منهج محاسبة” للمسؤول هو إجباره على قضاء شهر في قرية بعيدا عن كل وسائل العيش التي اعتاد عليها . سيضطر لمعايشة من يسميهم بمواطنيه وسيرى كل أوجه معاناتهم. سيستيقظ في صبح تحت جنح الظلام ليتنقل بعيدا للبحث عن كمية الماء لكي تعيش أسرته. ستناديه زوجته لكي يستيقظ ويبحث عن دواء لابنته التي لم تنم من جراء ارتفاع درجة حرارة جسمها وحدة الآلام التي تعانيها. وستجبره غريزة الأبوة على البحث عن وسيلة نقل للوصول إلى أقرب مركز صحي، وقد تحدوه الرغبة، إذا كان ذا مال، للذهاب إلى أحدث منشأة صحية خاصة توجد على أقرب مدينة من سكناه. وسيجد نفسه ضحية لكل السياسات العمومية التي لم يتم تنزيلها وفقا لأهداف المعلنة.
رجع فلاح من حقله بعد يوم عمل شاق. مياه السقي قليلة وتقسيم وصول حصته منها إلى حقله تتطلب صبرا وطول إنتظار. رجع ووجد طفله الصغير قد لدغته عقرب حين كان يلعب بالقرب من المنزل. حاول امتصاص السم، حسب ما علمته تجارب السنين، ولكنه اضطر إلى طلب العون من جاره الذي يمتلك دراجة نارية. وصلت هذه الوسيلة المتاحة للتنقل عبر طريق ترابية صعبة إلى المركز الصحي القريب من مقر شيخ الجماعة. صرخ الأب بأعلى صوته لكي تفتح أبواب المركز الصحي لإسعاف إبنه الملدوغ. كان المركز شبه مهجور والدواء مفقود. وأستمرت معركة البحث عن حل للانتصار على السم الذي نفتته العقرب، ولكن المساحة بين طريق ترابي وآخر معبد كانت تعاند الحياة وتعاديها. وهكذا سجلت مراكز صحية عدد الوفيات من جراء لدغات العقارب في كثير من القرى . الطريق تقتل بوجودها وبغيابها. قتلى الطريق، بالنسبة للعالم القروي، هم من ابعدتهم الحكومات المتعاقبة عن خدمات صحية وتعليمية تحميهم من هشاشة وفقر ومن بعد عن شبكة طرق ومرافق صحية.
أرجع إلى توصية ذلك الصديق، الذي لا يصدق انخراط النخبة السياسية في خدمة المواطنين، والتي لن تصح دون خضوعها لمعايشة مواطنيهم بشكل صادق وواقعي .تتمثل هذه المعايشة في الحكم عليها بمشاركة سكان القرى في معيشهم اليومي لمدة لا تقل عن شهر كل سنة. المعاناة اليومية ستلقنهم أهم دروس الحياة أن هم أرادوا التعرف على أدوات الوعي الحقيقية.
يجب أن يخضع جميع المنتخبين والمسؤولين للمحكمة العليا الطبيعية البشرية و” المواطناتية “و التي تعري عن كل من تهرب من الموقع والواقع. محكمة كهذه يمكن أن ترتبط بكل ما تتيحه أنظمة الذكاء الاصطناعي من وسائل المحاسبة المرتبطة بالمسؤولية. ستعري هذه الأنظمة عن كل المعطيات التي يريد المنتخب أن يخفيها منذ أن وصل إلى منصب المسؤولية. تتشكل هذه المحكمة من كل القيم الإنسانية والحضارية والأخلاقية لكنها شديدة الحرص على انفاذ القانون وتقييم النتائج. لا يفلت من عقابها من خان الأمانة فقط، ولكن، وبالأساس، ذلك الذي قدم نفسه كمختص في تدبير الشأن العام ولكنه كان جاهلا بالتدبير وبالمعرفة وبالوصول إلى نتائج ذات تأثير على محاربة الفقر والهشاشة ومستوى خلق الثروة ومناصب الشغل.
تسرب الملل إلى المواطنين بعد أن انتظروا تحولات وبعد أن سمعوا كثيرا من الوعود. انتظروا تخفيف ضغط الأسعار فإذا بها تتجاوز كل المستويات. سجل المواطن كل درجات العرفان بمشروع التغطية الإجتماعية منذ بداية تنزيله سنة 2021، وتراجع مستوى الولوج إلى العلاجات الذي يضمنه الدستور. لم تفق حكومة رجال الأعمال وقانون ” العرض والطلب ” و” حرية الأسعار “، والتي يوجد فيها من يداري حرقة سياسة تضامن حكومي قد تدفعه إلى تواطؤ يسجل عليه في القادم من الأيام. نسي البعض أو تناسوا حجم أرباح خيالية تقدر بعشرات المليارات من الدراهم في عمليات استيراد غير شفافة في كثير من المجالات وعلى رأسها الغاز والبنزين. وتم صرف الأموال العمومية لتخفيف ضغط أسعار اللحوم على القدرة الشرائية للمواطنين. مر عيد الأضحى بمنحة حكومية لأسياد الاستيراد دون تأثير على مستوى الأسعار. ولا زال المستفيدون وسماسرتهم يجنون الأرباح ويربكون كل قواعد التأثير الإيجابي على الأسعار. وسيظل رواد اقتصاد الريع يتسيدون تدبير سياسات الدعم من الغاز إلى الدقيق والولوج إلى السكن الإقتصادي. سخرت أموال دافعي الضرائب لدعم الولوج إلى السكن في ظل سيطرة لا تقاوم على ” أعضاء مافيا العقار” التي لا تعترف بالضمانات ولا بالأسعار الرسمية في علاقتها بالدعم. وتستمر الممارسات المستغلة لهشاشة شبكة حماية المستهلك لتخلق أزمات إجتماعية في الكثير من مناطق المملكة. تم الاستيلاء على مدخرات أسر مغربية في كثير من المدن. وكان الضحايا ممن صدقوا أرباب مقاولات مصادق على وجودها ومشاريعها قانونيا.
و ستأتي الحكومة خلال هذه السنة الجديدة لكي تبرر عدم تحقيق الأهداف التي وردت في برنامجها. ستتجاهل نتائج الإحصاء العام للسكان والسكنى وما تم نشره من أرقام عن مستوى البطالة والذي تجاوز 21% . ولن تقدر مكونات الحكومة على قول كلمة حق في مجال تضارب المصالح على أعلى المستويات واستفادة الفاعل السياسي من صفقات ومنح الدولة وأموال
لدعم سياسة الاستيراد وغياب محاسبة المسؤولين المستفيدين. ولا زالت أسعار اللحوم مرتفعة رغم الدعم عبر الميزانية العامة والاعفاءات الجمركية والضريبية. وسيظل المستفيد قريبا من القرار وقريبا من الريع وبعيدا عن كل محاسبة. ويأتي بعض المتفوهين بخطابات التبرير السياساوي لكي يدافعوا على المستفيدين، من ذوي الفضل عليهم، ويحاولون دفع كل شبهة مصلحية عنهم. وهكذا يتم الاجهاز على الثقة في المؤسسات وفي العمل السياسي.
سوف يقول البعض أن الاوراش التي تنمي قطاعات الطرق والموانئ والنقل والبنيات الأساسية تسير وفق برامج متميزة وبرمجة زمنية دقيقة. نعم هذا مهم، لكنه لن يرقى إلى أهمية قطاعات التربية والتعليم والصحة. لا زلنا ننتظر تحسن الولوج إلى خدمات حقيقية في المجال الصحي و التربوي. لا زال المستشفى العمومي قابعا في وضعية لا تمكنه من قيامه بأدواره الأساسية. ولا زالت المدرسة العمومية تعيش على إيقاع تراجع مهول على مستوى التأطير ومستوى تقديم الخدمة التربوية في عهد الذكاء الاصطناعي.
و كخلاصة بسيطة ومبسطة، وجب التذكير بأن تقييم السياسات العمومية يتم عبر نتائجها ذات الأبعاد المتعددة . ووجب التأكيد على أن جزءا كبيرا من تلك النتائج لا يمكن تحليلها إلا من خلال تطور أرباح من يمتلكون مفاتيح الولوج إلى تنفيذها عبر صفقات وصفقات. ستظل ممارسة السياسة نذير شؤم على مستوى النمو ما دام الفاعل السياسي يتظاهر بالدفاع عن سياسة ومبادئ، ولا يحرك ساكنا إذا ظهرت أمامه كل المؤشرات التي تظهر العكس. وفي انتظار شيء من الحياد وكثير من الجدية في التعامل مع بناء الاقتصاد على أسس متينة وشفافة، يجب إعطاء نفس صادق ومتجدد لمفهوم الدولة الاجتماعية. هل تستمع الدولة لكل ما يتم تدوينه من توصيات وتحليلات من طرف مؤسسات الحكامة الدستورية؟ كلما قرأت تقريرا من تقارير هذه المؤسسات، يزداد يقيني بأن أصحاب القرار لا يهمهم ما يصدر عن مؤسسات لا قدرة لها على التشريع والفعل في القرار. وتزيدهم قوة وسائل الإعلام والتواصل التابعة لهم رغبة في التغلغل في معترك السياسة الضامنة التي تحميهم وتشجب كل محاسبة تطالهم. ويؤسف كل غيور وربما ” كل أحمق حكيم ” أن يتحول من يسيطرون على الميكروفونات، والصفحة الأولى في المواقع والجرائد، إلى آليات لقمع من ينادي بالشفافية.

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي