فتحت الدولة في بداية العهد الجديد ملفات كثيرة ومعقدة تاريخيا وسياسيا واقتصاديا وحقوقيا. تمت برمجة ميزانيات مهمة خلال سنوات متتالية منذ 1999 إلى اليوم. دخل الكثير من معارضي الأمس على خط المراجعات والمحاسبات ونضالات من أجل الإنصاف. أزيد من عشرين سنة مرت فكان الموعد مع النجاح في بعض القطاعات ومع استمرار اجترار مخلفات الماضي. فتح الملف الحقوقي بإرادة سياسية وتعاطى المغاربة معه بكثير من الأمل. نقل التلفزيون مباشرة تعبيرات صادقة عن سنوات سادت فيها بعض السلوكات السلطوية نتجت عنها “انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان “. سميت تلك المرحلة ” بسنوات الرصاص ” رغم تجاوز هذا الوصف لحجم ما جرى على الواقع وبالمقارنة مع دول عربية وأفريقية وخصوصا مع دول الجوار. تحملت الدولة مسؤولياتها واشركت الكثير من الفعاليات المدنية والسياسية والحقوقية في تنزيل ورش طي ملف صنف من أنجح أمثلة العدالة الانتقالية عالميا. ولكن هذا النجاح لا زال محتاجا إلى تحصين كبير لضمان حرية التعبير وصيانة مكتسبات المرحلة السابقة. ويظل ورش إصلاح المجالات القضائية والأمنية والاقتصادية ودعم ادوارها مؤسسيا ضرورة وطنية إستراتيجية في ظل سيادة القانون . الأمر كبير وذو أبعاد تتجاوز حرية التعبير والانتماء السياسي والممارسة النقابية والجمعوية إلى المجال الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. وللتذكير فقط ، وجبت الإشارة إلى أن احداث مجالس للحكامة تعمل بطريقة ” مستقلة ” جاء تطبيقا لمقتضيات وفصول دستور 2011. وبالطبع وجب تمويل آليات الحكامة من خلال الضرائب.
الأمر المالي المرتبط بتحسين الحكامة مكلف. هيئة المنافسة التي تراجع منسوب الثقة في تعاملها مع موضوع المحروقات بكثير من الحذر وقررت فرض ذعيرة لم يقتنع بها كثير من المتابعين للشأن العام. المواطن يتحمل نتائج سياسات اضرت بالسيادة الطاقية للمملكة وشركات تنعم بأرقام معاملات تتطور في ظل غياب اضطراري لصناعة التكرير والكل يشتكي من غياب للشفافية وقواعد المنافسة. يشتغل هذا المجلس، الذي سينتقل قريبا إلى مقر جديد بحي الرياض كلف بناؤه كثيرا، لكي يلعب دورا ثانويا في مشهد اقتصادي تطغى عليه ممارسة الريع وغياب المنافسة. تظهر ميزانيات بعض مجالس الحكامة في قوانين المالية ولكن هذا المجلس تحكمه قواعد لا تظهر ضمن القوائم الأساسية. هذا المجلس يتبع لرئيس الحكومة. يوجد ضمن لائحة تضم مؤسسات عادية كتسيير غولف دار السلام لفائدة قلة قليلة ومؤسسة يرجع تأسيسها لأكثر من أربعة عقود وهي المكلفة بالربط القاربين المغرب وإسبانيا دون أثر يذكر. والباقي يتعلق بشيء غريب اسمه مؤسسة تتبع التنمية البشرية. ثم تظهر أخيرا ميزانية تتجاوز سبعة ملايير موجهة لمجلس المنافسة. هذه الميزانية تتبع لرئاسة الحكومة وما يصاحبها من أساليب في التعامل مع قانون المنافسة. ما تظهره بيانات قانون المالية بوضوح هي ميزانيات المجلس الإقتصادي والإجتماعي والبيئي ( 120،5 مليون درهم) والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ( 3،1 مليار درهم) والمجلس الوطني لحقوق الإنسان ( 185 مليون درهم) والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها ( 152،5 مليون درهم) وهناك مؤسسات أخرى لا زالت تتلقى التمويلات دون تسجيل أثر تغيير يمكن اعتباره حصيلة إيجابية. مجلس حقوق الإنسان أصبح عاديا جدا ولا يمثل إلا نفسه. المجالس الأخرى خلقت بيروقراطية مستفيدة تدافع عن مصالح آنية. أصبحت العضوية في هذه المؤسسات مرغوبة من طرف الكثيرين والحريصين على الإلتزام بواجب التحفظ.
رفع شعار ” الإنصاف والمحاسبة” هو طلب دستوري بامتياز. حين تمت صياغة النص الدستوري وتمت الموافقة عليه شعبيا، كان الأمل كبيرا في الانتقال بممارسة المهام العمومية عبر الانتخاب أو عبر التعيين في الوظائف من مرحلة الافلات من المحاسبة، وفي بعض الأحيان من العقاب، إلى مرحلة المحاسبة المؤسساتية عبر المراقبة والتقييم والقضاء. مرت السنين وظلت المحاسبة حبيسة نصوص وقراءات ومصالح وشبكات علاقات بإستثناء بعض الحالات قليلة العدد والمحدودة المضمون. أحدث الدستور مؤسسات للحكامة ظل أغلبها شبه مكاتب دراسات وتعتمد غالبيتها على صرف المال العام لصياغة تقاريرها من طرف مستشارين خارجيين كد يكونوا أصدقاء لأصحاب القرار. هذه المؤسسات الضرورية لدعم مسارات نحو النمو وتحصين دولة الحق والقانون ومساعدة السلطات القضائية و، التشريعية والتنفيذية لتحسين اداءها وادوارها أصبح صوتها خافتا بشكل مخيف.
أقرب مثال على هذا المستوى من الأداء هو آخر ما قرره مجلس المنافسة في مجال تغريم شركات استيراد المحروقات على سلوكات تتعلق بالتوافق حول الأسعار. قرر هذا المجلس ” الموقر” غرامات على شركات لم تتعدى حاجز 2 مليار درهم. تحديد مستوى ” العقوبة” سبقته مشاورات وتوافقات مثل تلك التوافقات التي لا تغضب من يستفيد من ثغرات تنظيم اقتصادنا الوطني. ولن ينسى متتبعو الشأن العام ما جرى في شأن استيراد المحروقات حين وضع الأصبع على ما وصلت إليه السوق من غياب للشفافية. والآن وصلنا إلى زمن طي صفحة كبيرة عبر غرامات صغيرة بالمقارنة مع ما تحمله المواطن المستهلك وما راكمه المستورد الموزع للمحروقات. هل من شجاعة وشفافية حقيقية للكشف عن هوامش الربحية الحقيقية.
الحكامة يا سادة مجالس الحكامة التي أقرها دستور المملكة تتطلب كثيرا من الشجاعة وليس مجرد استفادة مالية لحضور جلسات وأخرى مرتبطة بعضوية تتطلب الانزواء بعيدا عن النقد البناء. لدينا مؤسسات حكامة كثيرة في مجالات سوق المال والسوق النقدي وسوق الاتصالات وسوق الكهرباء وأسواق أخرى. لا نسمع عن أفعالها شيء يذكر. نريد أفعالها وليس مجرد تقارير تحتل مكانا مريحا في مرتع الأرشيف.
زمن الإنصاف والمتابعة وصل ويتحدى كل المنظومات المؤسساتية. قال الدستور كلمته في المحاسبة المرتبطة بالمسؤولية. والآن وفي ظل تطور اقتصاد الريع وزيادة ظاهرة الاغتناء غير المشروع وتفاقم غياب محاسبة سياسيين تحولوا من الفقر المدقع إلى الغنى الفاحش، أصبح الوطن في حاجة إلى حضور الدولة بقوة القانون وبإرادة تحصين المؤسسات. المحاسبة فعل بإرادة وقوة القانون. لا نريد وطنا يسيطر فيه مجرمو المال العام على قرارات المجالس الترابية. لا نريد أن تتواجه السلطة الأمنية مع المواطنين بفعل فئة قليلة من المستفيدين ومن اغتنوا بطريقة غير شرعية. لا نريد أن يتم أي ضغط على القضاء مهما كانت مصادره. نريد تحصين ما راكمه ملك مواطن من إنجازات اقتصادية واجتماعية من أجل الوطن. نريد أن يكون الجميع وراءه لمواجهة من يسرقون خيرات البلاد والدفع بالمواطن إلى معاداة الوطن ومؤسساته. والخلاصة أن مؤسسات الحكامة دخلت في نوم عميق يجسده تراجع دورها في ما يبتعد عن التقييم السياسي الحقيقي للتدبير العمومي. قد يتسابق البعض لعضوية مؤسسات الحكامة وقد يطمئنون على مورد رزق ” ساقه الله ” ولكن الأمانة تقتضي الصراحة المفرطة من أجل الوطن. وحبذا لو رجعنا إلى ممارسة عتيقة في التعامل مع اغتناء بعض المسؤولين غير المشروع عبر إرجاع مشروع القانون المتعلق به إلى البرلمان. وللتذكير فقد كانت أولى قرارات وزير العدل الحالي إيقاف التداول في شأن هذا المشروع بمباركة حكومية وبالإجماع. الأولوية القصوى في مجال محاربة الاغتناء غير المشروع هي مصادرة ممتلكات وأموال المسؤولين وتجار المخدرات ومافيا العقار ومن هم على شاكلتهم. كل هذا من أجل الإنصاف والمحاسبة وحماية الوطن والمواطنين.
تعليقات ( 0 )