صراع القوى الكبرى أصبح على المعادن النادرة بدل النفط

الصين في المقدمة لأنها تتحكم في ثُلُثَيْ إنتاج العالم

 
يشهد العالم حاليا ومنذ سنوات مرحلة انتقالية إلى عصر ما بعد النفط، حيث يجري تدريجيا التخلي عن المحروقات في أهم القطاعات التحويلية. وفي هذا الإطار، تبرز المعادن الأرضية النادرة كمصدر آخر لتهافت الدول الصناعية وتنافسها. خصوصا بالنسبة إلى عملية التحول نحو السيارات الكهربائية. فهي تتطلب كميات هائلة من المواد الخام المستخدمة في البطاريات، مثل الليثيوم والنيكل والكوبالت، التي تقود شركات السيارات الرائدة مثل “بي إم دبليو” و”فولكس فاغن” و“تسلا إلى التعامل مباشرة إلى شركات التعدين.
وتأتي الصين حاليا في صدارة دول العالم المحتكرة، بنسبة الثلثين لصادرات خامات المعادن الأرضية النادرة المعالجة. لكنها تنوي الاحتفاظ بإنتاجها منها قريبا لحاجياتها الداخلية، كجزء من خططها للهيمنة على العالم. وهو ما أشعل أسعار هذه المواد المطلوبة جدا عبر العالم، في وقت تعمل بكين منذ سنوات على امتلاك مناجم تلك المعادن الثمينة عبر العالم، خصوصا في إفريقيا وأفغانستان. ولذلك فإنه من المتوقع أن تُشعل هذا التسابق مزيدا من التوترات مستقبلا، نحو امتلاك هذه العناصر (الضرورية أيضا للصناعات العسكرية، والإلكترونية، وغيرها).
قبل انتشار الجائحة، لم يكن أحد يولي اهتماماً كبيراً للاعتماد المتبادل المندمج في هذه الشبكات التجارية، لأنه لم يكن في مصلحة أحد ضمن تلك سلاسل الإنتاج إلحاق الضرر بمكانته في السوق العالمي، من خلال استخدام هذه الموارد الحيوية كسلاح لتعزيز نفوذه الجيوسياسي. لكن الأمور تغيرت خلال مرحلة ما بعد كورونا…
 
شكلت الصين قبل أسبوعين، شركة عملاقة لمعادن الأرض النادرة من خلال دمج بعض الشركات المنتجة الرئيسة المملوكة للحكومة، لتعزيز سيطرتها على الصناعة العالمية التي تهيمن عليها منذ عقود طويلة. وتتحكم الصين في معظم إنتاج العالم من المعادن الأرضية النادرة، وهي مجموعة مكونة من 17 عنصرا تُستخدم في كل الصناعات، من الهواتف الذكية إلى الطائرات المقاتلة، بحيث لبكين سيطرة كاملة على التصنيع أو المعالجة.
تهافت صيني على مناجم إفريقيا وأفغانستان
لم يعد المستثمرون الصينيون يترددون في استثمار مئات الملايين من الدولارات، للسيطرة على مشاريع التعدين الأفريقية الكبيرة. وسواء تعلق الأمر بالنيكل، أو الليثيوم، أو الذهب، أو النحاس، أو الكوبالت أو حتى معادن البلاتين، فإن العديد من المعادن النادرة هي جزء من الثروة الأفريقية التي تُسيل لعاب كثير من الدول والشركات العملاقة.
والأفضل من ذلك، أن هناك إمكانيات كبيرة لاكتشافات جديدة، لأن التربة التحتية الأفريقية ما زالت غير مكتشفة. وهو ما يزيد من جاذبية القارة لبلد مثل الصين الذي أطلق شركاته منذ سنوات، للاستحواذ على الثروة المعدنية لأفريقيا، سواء بشراء حقوق استغلال مناجم جديدة، أو اقتناء حقوقها من شركات أمريكية وغربية تستغلها. ويرى خبراء بأن هذا الاستثمار الصيني الاستراتيجي في قطاع التعدين بأفريقيا، سيواصل نموه بسرعة فائقة في غضون السنوات القادمة.
والواقع أنه غير بعيد عن الصين، توجد احتياطيات هائلة من المعادن النادرة لكن الوصول إليها ليس بالسهولة التي عليها في أفريقيا. فعندما غزت الولايات المتحدة أفغانستان في عام 2001، كان الاقتصاد العالمي مختلفا كثيرا، إذ لم تكن شركة “تسلا” مثلا موجودة، ولم يكن جهاز “أيفون” معروفا. الآن بات هؤلاء الثلاثة في طليعة الاقتصاد الحديث المدفوع بالتطورات التي حدثت في مجال الرقائق عالية التقنية، والبطاريات ذات السعة الكبيرة المصنوعة من مجموعة من المعادن، بما في ذلك المعادن الأرضية النادرة.
وتضم أفغانستان خامات تقدَّر قيمتها بتريليون دولار أو أكثر، من بينها ما قد يكون أكبر احتياطي من “الليثيوم” في العالم، لمن استطاع إخراجها من الأرض. لكن المشكل أن أربعة عقود من الحرب، أولا مع الاتحاد السوفيتي ثم بين القبائل المتحاربة ثم مع الولايات المتحدة أخيرا، دون حدوث ذلك. ويفسر ذلك لماذا سارعت الصين بعد الانسحاب الأمريكي قبل شهور قليلة، إلى مد اليد لحركة طالبان. فيمكن لبكين أن تقدم أكثر ما تحتاجه كابول: الحياد السياسي، واستثمار المليارات التي ترفض واشنطن ومعها الغرب استثمارها لتطوير البنى التحتية لاستخراج تلك الخامات الثمينة، البالغة الأهمية للانتقال العالمي إلى الطاقة الخضراء.
سلاح جيوسياسي خطِر بيد بكين
شكلت هيمنة الصين على القطاع مصدر قلق بشكل متزايد. سلطت الأضواء على المواد غير المعروفة في عام 2019 عندما فكرت بكين في وضع ضوابط للتصدير، في إطار حربها التجارية مع واشنطن، التي تعتمد على الصين في تدبير 80% من وارداتها الخاصة بمعادن الأرض النادرة. وفي حين لم تطبق الصين، أي قيود في نهاية المطاف، فقد سلطت الضوء على مخاطر الاعتماد على دولة واحدة، وأثار صدور مجموعة من التصريحات من جانب الاقتصادات الغربية التي تتعهد بتعزيز استقلالها في تدبير المعادن الأرضية النادرة.
وتمتلك الصين في الواقع، ما يمكنها من أن تجعل الصناعة العالمية تحت رحمتها، من خلال مجرد تهديدها بوقف صادراتها من المعادن الأرضية النادرة المصنعة. وهذا هو سبب قلق كثيرين بشأن الأخبار التي تفيد بأن بكين تخطط لحظر تصدير التكنولوجيا الخاصة بتصنيع مجموعة المعادن النادرة، في محاولة منها لتحويل تجارة المعادن النادرة إلى سلاح جيوسياسي في يدها. وللتذكير، ففي عام 2010، تسبب نزاع بين الصين واليابان حول مجموعة من الجزر قبالة الساحل الشمالي الشرقي لتايوان، في قيام بكين بفرض قيود على تصدير جميع المعادن الأرضية النادرة السبعة عشر. وهو ما شكل آنذاك مشكلة بالنسبة لليابان، التي تعتمد على عناصر مثل النيوديميوم والديسبروسيوم والتيربيوم، كمكونات أساسية تستوردها من الصين، لصنع أجزاء من سياراتها، مثل المحركات وثنائي باعث الضوء والليزر وخلايا الوقود.
وتلوح الصين بحظر تصدير المعادن المهمة والنادرة إلى دول أو شركات، تمثل تهديدا لأمنها القومي. ويرى خبراء عالميون أن التكنولوجيا اللازمة لتكرير وتنقية هذه المعادن الثمينة، تعد سلاحا قويا يمكن استخدامه لحماية مصالح بكين أكثر من المعادن النادرة ذاتها. وفي الوقت الذي لم تعلن الصين عن خططها، لتقييد شحنات المعادن النادرة إلى الولايات المتحدة، إلا أنها تحتفظ بالخطة في جعبتها لاستخدامها في حال اندلاع حرب تجارية قوية مرة أخرى، حسب ما كشفت مصادر أشارت إلى أن الصين تدرس أيضا فرض حظر على العناصر النادرة، كجزء من عقوباتها على بعض الشركات الخاصة. بما في ذلك شركة لوكهيد مارتن الأمريكية المتخصصة في الصناعات العسكرية، والتي ترى أنها انتهكت مصالح الصين الأساسية بشأن بيع الأسلحة إلى تايوان.
السيارات الكهربائية على المحك
عادت مبيعات السيارات مجدداً إلى سكة الازدهار بفضل انعكاسات جائحة كورونا، لكنها أصبحت أكثر غلاء بسبب ارتفاع أسعار السلع. فقد وصلت العديد من المكونات الأساسية لصناعة السيارات، مثل الحديد والنحاس والصلب والألمنيوم، إلى مستويات قياسية أو تقترب منها خلال عام 2021. إذ لا يواكب العرض المتأخر الطلب المدفوع بالمحفزات الحكومية. فقد شهد العام الذي ودعناه ارتفاع أسعار العديد من العناصر النادرة إلى مستويات قياسية، في ظل تعافي الطلب من شركات صناعة السيارات. وهو ما عمق نقص المعروض من البلاتينيوم المستخدم في المحولات المحفزة للحد من الانبعاثات، في السيارات التي تعمل بوقود البنزين. والحال أن تطبيق قواعد أكثر صرامة بشأن التلوث، سيفرض على شركات صناعة السيارات استخدام المزيد من البلاتينيوم، لتقليل الغازات الضارة في عوادم السيارات، وهو ما سيدعم بالضرورة ارتفاع أسعاره.
كما أن هناك عجزا في تلبية الطلب العالمي سريع النمو على بطاريات السيارات الكهربائية، وسط توقعات بأن يرتفع الطلب عليها بمقدار عشرة أضعاف بحلول العام 2030، وفقا لخبراء أمريكيين، مع تسارع التحول العالمي نحو الطاقة النظيفة.
وارتفعت أيضا أسعار النحاس والصلب والألمنيوم، بحيث وصلت إلى مستويات قياسية. وهي تُشكّل 10% من مكونات السيارة.
وزادت تكلفة السيارات الكهربائية أيضا، بفعل ارتفاع الليثيوم والكوبالت والنيكل وهي معادن لازمة لصناعة البطاريات بنسبة 47%. ويُقدّر المحللون أن أسعار المواد الخام المستخدمة في صناعة السيارات ارتفعت بنسبة 83% إلى حدود مارس الماضي. وهو ما يعني أن السيارة التي يبلغ سعرها 40 ألف دولار ينبغي أن تزيد بنسبة 8,3% لتعويض ارتفاع المعادن. على سبيل المثال، في الولايات المتحدة، يُعدُّ معروض السيارات محدوداً للغاية، لدرجة أن شركات التأجير تلجأ إلى شراء السيارات المستعملة من المزادات بدلاً من شراء سيارات جديدة.
وإلى ذلك، يزيد الصعود الحاد في أسعار النحاس تكاليف السيارات الكهربائية، في الوقت الذي يتحول فيه القطاع نحو الطاقة النظيفة للامتثال لمعايير الانبعاثات الكربونية الأكثر صرامة. وتستخدم المركبات الكهربائية ما يقرب من 3 أضعاف ونصف كمية النحاس مقارنة بتلك التي تعمل بالبترول بسبب الكمية الأكبر من الأسلاك الداخلية. ورغم سعي عمالقة صناعة السيارات، بما في ذلك “بي إم دبليو” و”جنرال موتورز”، إلى تقليل كمية المعادن الأرضية النادرة (تستخدم السيارة في المتوسط 3 كيلوغرامات)، إلا أن اللجوء إلى البدائل الأخرى يجعل المحركات أقلّ كفاءة.
الطاقة الدولية”: ينبغي تخزين معادن البطاريات النادرة
لمواجهة التحديات التي تلوح في الأفق، سبق أن وكالة الطاقة الدولية أن دعت إلى تعزيز إعادة تدوير المواد الخام، ووضع أجندة سياسية واضحة لتشجيع شركات التعدين على تطوير مصادر جديدة للإمدادات. وتنضم الوكالة أيضا إلى البنوك الاستثمارية وشركات تداول السلع، للتحذير من أن الطلب المتزايد أثناء انتقال الطاقة (من المحروقات إلى الطاقات المتجددة) قد يدفع أسواق معادن مثل النحاس إلى تسجيل عجز عالمي كبير.
وتحذر وكالة الطاقة الدولية من أن خطط المعروض والاستثمارات الحالية من العديد من المعادن الحيوية ذات الأهمية البالغة، أقل بكثير مما هو مطلوب. وترى بالمقابل بأن التخزين يكون أكثر فعالية في الأسواق الصغيرة والغامضة حيث يتركز العرض بشدة.مضيفة بأن استجابة صانعي السياسات والشركات المعنية، ستحدد ما إذا كانت تلك المعادن ستكون عاملا حيويا يساعد في الانتقال نحو الطاقة النظيفة، أم ستصبح عقبة أمام هذه العملية.
وترى الوكالة بأن الحكومات الغربية يتعين عليها التفكير في تخزين معادن تصنيع البطاريات الهامة، مثل الكوبالت والليثيوم، فيما يعد تحذيرا صارخا من المخاطر السياسية التي تصاحب الانتقال نحو الطاقة الخضراء. وتأتي هذه الدعوة في وقت يقلق بعض صناع السياسة من أن التحول عن حرق الوقود الأحفوري إلى اقتصاد أكثر بيئية، سيعرض العالم لتهديدات جديدة. فعلى عكس البترول، وهو السلعة الموجودة في كل مكان تقريبا، فإن إنتاج ومعالجة معادن نادرة مثل الليثيوم والكوبالت وبعض العناصر الأرضية النادرة الأخرى، يتركز بشكل كبير في مناطق بعينها. ويشكل أكبر ثلاثة منتجين أكثر من 75% من المعروض العالمي. ولذلك قد تقدم برامج التخزين حماية ذات قيمةن للدول الصناعية الرائدة التي تتطلع إلى تطوير مصادر موثوقة من المعادن والعناصر التي تلعب دوراً حيوياً في عالم التخلص من الكربون، بحسب قول الوكالة في تقرير سابق.
لكن من جهة أخرى، قد يكون لبناء احتياطيات استراتيجية جديدة عواقب غير مقصودة. مثل زيادة الطلب وما ينتج عنه من ارتفاع للأسعار، في ظل تنافس الحكومات مع شركات صناعة السيارات على المعادن النادرة.
ورغم امتلاك الصين واليابان مخزونات استراتيجية من المعادن الهامة، فإن الدول الغربية لا تمتلك مخزونات واسعة. وقد حذرت وزارة الطاقة الأمريكية أوائل العام الماضي، من أن بلادها تفتقر إلى موارد محلية كافية لتلبية الطلب المتوقع على بعض المواد الحيوية مثل الكوبالت والغاليوم. وسبق أن وضعت الولايات المتحدة برنامج تخزين عبر وكالة الخدمات اللوجستية الدفاعية، ولكن كان هناك عدد قليل من عمليات الشراء واسعة النطاق منذ الحرب الباردة، عندما اكتسبت للمرة الأولى المعادن -مثل الكوبالت-أهمية استراتيجية في صناعة محركات الطائرات. بينما تتمتع الصين بتواجد قوي في مجال معالجة المعادن، فضلا عن إنتاج حوالي ثلثي العناصر الأرضية النادرة في العالم.

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي