غرقت صورة البرلمان المغربي في المزيد من السلبية أمام الرأي العام بعد أن تحول كل من مجلس النواب والمستشارين، لسيرك حقيقي.
سيرك يتم فيه تبادل ألفاظ تنهل من قاموس الشارع، وتصوب فيه الاتهامات العشوائية بالفساد نحو جميع الاتجاهات، ولا يتردد فيه البعض في كشف جسده عاريا أمام الآخرين، أو لكمهم وعضهم، لتضاف لكل هذا السلوكات ظاهرة الغياب التي ضلت مرضا مزمنا لا يشفى منه البرلمان إلا مرة واحدة كل سنة، وذلك خلال افتتاح الدورة التشريعية التي يحضرها الملك.
لكل هذه الأسباب فان سؤال المردودية مقارنة بالتكلفة يفرض نفسه بإلحاح، سيما حين يتعلق الأمر بمؤسسة دستورية تلتهم الملايير سنويا من أموال المغاربة لممارسة مهمة مفترضة عنوانها الأبرز، التشريع والرقابة.
لكن هذه المؤسسة تتحول بالنسبة للبعض لمجرد أجر شهري مع تقاعد، وامتيازات، وشبكة علاقات مضمونة، فيما تتحول للبعض الآخر لمجرد منصب يضمن الوجاهة أمام الجماعة والقبيلة، وكذا أمام المواطنين وممثلي المصالح العمومية بفضل شارة خاصة تلصق على الواجهة الأمامية للسيارة.
أميون تحت القبة
بعض المتتبعين يعتبرون أن مقارنة التكلفة بالغياب، وبالجدوى، أمر لا طائل منه، وحجتهم في ذلك أن حضور عدد مهم من النواب كغيابهم بالنظر إلى المستوى التعليمي والفكري المتواضع، والمنعدم في أحيان أخرى لنسبة غير يسيرة من هؤلاء.
واقع يجعل هؤلاء بدون قيمة مضافة في مؤسسة من المفترض فيها أن تنتج التشريعات والقوانين، وتضبط مسار وإيقاع الحياة في البلد.
هذا الواقع يختزله نواب لم يطرحوا أي سؤال خلال ولايتهم، في حين أن بعضهم نسي خلال بث مباشر السؤال الذي كان من المفترض أن يطرحه، وآخر طرح سؤالا لا يعلم محتواه، قبل أن تمد له ورقة أخرى لإنقاذ الموقف.
ورغم كل ذلك فإن سؤال الكلفة يفرض نفسه بقوة أمام تضخم الفاتورة المرصودة لهؤلاء البرلمانيين، وكذا في ضل استفادتهم من امتيازات ستكلف الملايين من الميزانية العامة من أجل تحفيزهم على الحضور في “فشوش” غير مسبوق داخل هذه المؤسسة.
هذا في الوقت الذي يكتوي فيه المواطن العادي بنار الارتفاع المتواصل للأسعار، ويصدم بخطاب رسمي حول صعوبة الوضع المالي للبلد، وضرورة تقبل الزيادة لمصلحة الوطن.
وبلغة الارقام فان قانون المالية لسنة 2022يضم حوالي 59مليار سنتيم مخصصة للبرلمان منها 24 مليار سنتيم لتغطية مصاريف التعويضات الشهرية للبرلمانيين.
المصاريف الضخمة المخصصة للنواب الذين يختفي معظمهم من الجلسات لن تتوقف عند هذا الحد، بل ستخصص ميزانية لحظيرة السيارات، للمحروقات والزيوت، والتأمين، ومصاريف للصيانة، على أن يستفيد البرلمانيون الذين سيستعلمون سياراتهم الشخصية ل”مصلحة” تطرح حولها أكثر من علامة استفهام من تعويضات بعشرات الملايين من الدراهم.
تضاف لذلك فاتورة ضخمة لسفريات البرلمانيين للخارج وتنقلاتهم داخل المغرب.
سياحة الأشباح
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن عدوى الغياب ليست مكلفة، ومرتبطة فقط بالبرلمان، بل تمتد أيضا للمجالس الجماعية وتستنزف من ميزانياتها أموالا طائلة، بالنظر لوجود عدد من المنتخبين الذين يستفيدون من عدة امتيازات مثل سيارات الجماعة، والسفريات للخارج وحصة المحروقات، والهواتف النقالة، وذلك رغم تغيبهم الدائم مستفيدين من عدم تفعيل القانون التنظيمي للجماعات المحلية التي تتيح للمجلس الجماعي عزل أي عضو ثبت قانونا أنه لم يحضر ثلاث دورات متتالية دون عذر.
تعطيل هذه آلالية يكرس ظاهرة الغياب، ويساعد على إنتاج سلوك سياسي سلبي حتى لدى بعض من يصنفون ضمن دائرة القيادات السياسية.
فبالعودة للتمحيص في قوائم البرلمانيين سنجد أن نسبة كبيرة من هؤلاء هم مستشارون أشباح في مجالس جماعية، أو أنهم مارسوا العمل الجماعي قبل التسلق للوصول للبرلمان، وهو ما يعني أن ظاهرة الغياب سلوك مكتسب ومركب يعود في عمقه لطبيعة التربية السياسية التي يتلقها السياسي داخل أحزاب تعجز معظمها عن فرض الانضباط عل منتسبيها، وعن تكوين نخب تؤمن بالحد الأدنى للمبادئ التي يشهرها الحزب أمام الرأي العام.
لكل هذا لا يبدو من الغريب أن بعض النواب لا يترددون في إشهار أنانيتهم وانتهازيتهم وذلك باستغلال موقعهم النيابي للدفاع المستميت عن ضرورة توفير وسائل الراحلة لهم، سواء في تنقلاتهم أو إيوائهم من خلال تذاكر مجانية في الطائرة وفنادق مصنفة، وهو ما يكشف أن بعض نواب الأمة يبحثون عن السياحة أكثر من انشغالهم بأداء مهامهم.
لكن الغريب هو أن رئاسة هذه المؤسسة و حفاظا على منطق “إرضاء الخواطر” و”التوافقات” وتفادي صداع الرأس، استجابت بسرعة لعدد كبير من الطلبات ، بل واجتهدت أكثر من اللازم لتقدم عددا من الهدايا في شكل امتيازات، للإطعام والإيواء.
وحتى تكتمل الصورة فان غياب الاستثمار في التكوين من اجل إنتاج نخب قادرة على الرقي بالعمل التشريعي، في مقابل التهافت على تسمين فاتورة المؤسسة من خلال حصد مزيد من الامتيازات، كاف لوحده لفضح الانتهازية التي تطبع سلوك عدد من السياسيين، ما يحكم على البرلمان بأن يضل رهنية لعدد من الممارسات التي تسئ لصورة هذه المؤسسة ولصورة “قاطينها” أمام المغاربة.
تعليقات ( 0 )