مخاض المؤتمرات يتحول إلى مواجهات بالصحون والكراسي
في كل مرة تقع محاولة خلخة الأنظمة الشائخة للأحزاب، المبنية على منطق الولاء والقرب من الزعيم والشرعية التاريخية وغير ذلك من المفاهيم البائدة، تصطدم هذه المساعي بجدار سميك من الرفض الذي تتحد فيها حاشية الزعيم من أجل إجهاض أي محاولة للتجديد.
لا يتعلق الأمر هنا بحالات معزولة، بل بممارسة سياسية راسخة.. بل إن تطور بعض مساعي التجديد وتحولها إلى تهديد حقيقي ل”عرش” الأمين العام، سرعان ما يتحول إلى صراعات كبير ومواجهات دموية في بعض الأحيان، كما وقع في معركة الصحون الطائرة داخل حزب الاستقلال، أو موقعة الكراسي في أحد المجالس الوطنية لشبيبة الحركة الشعبية بسبب مطالب لها علاقة بتغيير القيادة.
كل هذه الأحداث، التي تعكس صراعا مريرا من أجل التجديد، تؤكد أن الأحزاب والنقابات فشلت فشلا ذريعا في امتحان الديمقراطية الداخلية، وباتت عاجزة عن إفراز جيل جديد من القادة الذين بإمكانهم حمل هموم أبناء اليوم والدفاع عنها ليس فقط بطرح المطالب بل بإبداع الحلول ومبادرات جريئة قد تساعد في إيجاد مخرج للأزمات الاجتماعية. فالمتابع لمؤتمرات الأحزاب والنقابات يخرج بقناعة مفادها أن هذه الهيئات تدور حول حلقة مفرغة قوامها مجموعة من النخب المتحكمة في دواليب القرار ومناصب المسؤولية.
محاولات الدفع بنخب جديدة سرعان ما تصطدم بسقف زجاجي، تم تثبيته بإحكام من طرف من يقررون في كل صغيرة وكبيرة داخل الهيئات السياسية والنقابية، بل إن الدفع بأي وجه جديد لا يمكن أن يتم إلا بمنطق “المحسوبية” والولاء والتوصيات التي تتشكل على أساس ضوابط يمكن تصنيف بعضها في خانة الفساد السياسي. واقع يجعل مساعي التجديد العميق تنتهي، في كثير من الأحيان، بتصدعات وانشقاقات تفرز هيئات جديدة بنفس الأعطاب والاختلالات.
ونحن نتابع كيف يهيمن موظفون متقاعدون على عدد من النقابات، يتضح بجلاء اتساع الهوة بين المواطن وهذه الهيئات التي دخل بعض قادتها في معارك “كسر عظام” من أجل الوصول إلى كرسي الزعامة، على حساب فئات قد تظل مطالبها معلقة لسنوات طويلة أمام عجز النقابات عن الترافع حولها. ويزداد هذا الوضع قتامة في ظل “تبخيس” أدوار النقابات وتحدي مدبر الشأن العام لها، كما وقع في عهد حكومة عبد الإله بنكيران عندما تم تنزيل مشروع إصلاح الصندوق المغربي للتقاعد رغم الاحتجاجات التي قادتها النقابات آنذاك.
أمام هذه الاختلالات، يقف المواطن حائرا أمام استمرار نفس الوجوه في قيادة النقابات والأحزب. فمن يغادر منصب الزعيم، يعود إلى العضوية داخل المكتب التنفيذي أو السياسي، في انتظار مؤتمر آخر قد يمنحه فرصة جديدة للعودة أو الدفع بأحد المقربين منه. وفي ظل هذا الوضع، تتراجع ثقة المواطن في العمل النقابية وسياسي وقدرة هذه الهيئات عن الدفاع عن مطالبه في مقابل بروز قيادات شبابية داخل تنسيقيات وهيئات غير مؤطرة وفق قوانين العمل المؤسساتي.
ويرى مراقبون سياسيون أن امتناع فئة من الشباب المغربي عن المشاركة السياسية وعن الانتماء الى الأحزاب والنقابات يرجع بشكل أساس إلى أعطاب بنيوية في المجال السياسي، ليس رفضا للعمل السياسي في حد ذاته، بقدر ما هو مرتبط بإرث ثقيل يرتبط في جزء منه بماض كانت فيه الممارسة السياسية مرادفا للاعتقال والقمع. لكن ورغم المجهودات التي بذلت لطي صفحات الانتهاكات الحقوقية، عبر مصالحة وطنية وجبر للضرر، إلا أن صورة العمل السياسي مازالا تعاني من أثر الفترات السابقة، والتي يبقى وجود وجوه من الفترة السابقة أحد مظاهرها.
ثانيا يجب أن ننسى مسؤولية الأحزاب المغربية عن هذا العزوف، على اعتبار أن الحقل السياسي المغربي يعاني من ظاهرة تناسل الأحزاب المتماثلة إيديولوجيا في المرجعيات وفي البرامج السياسية، مع وجود فساد نخبوي كبير، يعيق التواصل مع المجتمع، ويضعف العرض السياسي المقدم للمواطنين. هذا فضلا عن كون فئة من الأحزاب لا تعدو أن تكون إلا مجرد دكاكين انتخابية انتهازية همها الأساس هو تقاسم كعكة السلطة، أما النقابات فطامتها أكبر بكثير ولنا فيما حصل في انتخابات بعض النقابات والأحزاب أكبر دليل على ذلك.
مسألة أخرى وجبت الإشارة إليها، وهي أن الأحزاب والنقابات المغربية تعرف شيخوخة مهولة للقيادات، ونكوصا واضحا في الديمقراطية الداخلية، ولعل هذا ما يعكس حالة إفلاس حزبي ونقابي كبير، ينعكس بدوره على دورها ليس فقط في تأطير المواطنين بل حتى في القيام بدورها في المشاركة في صنع القرار السياسي والسياسات العمومية.
أيضا، هناك عامل آخر في الانكفاء الشبابي عن المشاركة السياسية، وهو المرتبط بالتعامل الانتهازي للأحزاب مع الشباب المغربي، بحيث يتم استحضار قضايا الشباب عند الاستحقاقات الانتخابية بخطاب سطحي، ومجاف للحقيقة، حتى تتمكن من الحصول على المغانم السياسية، عوض التوفر على رؤية رصينة ومتكاملة الأركان، ترصد مشكلات الشباب وانتظاراتهم، وتصوغ مشروعا مجتمعيا يحقق تطلعاتهم، بإدماج الفاعل الشبابي في السياسات العامة شريكا وفاعلا، وليس هدفا لتلك السياسات، وتمكينه داخل الأحزاب لتبوء المراكز القيادية، ولحمل مشعل الانتقال الديمقراطي في المغرب.
كل هذه المؤشرات، تجعل فئات مهمة لا تثق في دور الأحزاب ولا حتى في قدرتها على تحقيق ما يطمح له الشباب المغربي، فالانتهازية والمصلحة والمحسوبية عنوان عريض للواقع الحزبي والسياسي بالمغرب.
وتظهر كل هذه الملاحظات أنه لابد من بناء جسور الثقة بين الأحزاب والنقابات والشباب، ولما لا الانفتاح على طاقات وكفاءات جديدة وفق منطق الكفاءة وليس بناء على مصالح ضيقة تمس قبل شيء مصالح الوطن والمواطنين.
تعليقات ( 0 )