العملات الرقمية.. كورونا يسَرّع تراجع التعامل بالنقود “التقليدية”

زوال العملات الصادرة عن البنوك المركزية بات وشيكا لكن العالم ليس جاهزا بعدُ له!

 
عندما أماط “ستيف جوبز” النقاب عن أول “أيفون” في 2007، بدأت التحليلات الأولى تتنبأ بأن هذا الاختراع “الذكي” الأكثر من مجرد هاتف محمول، سوف يقتل الحاجة إلى الأوراق النقدية. وفي مطلع العام الماضي 2020، عندما شرع وباء فيروس كورونا في الإمساك بخناق العالم على غفلة من الجميع، تغيرت قواعد التجارة بشكل غير مسبوق في العالم، بحيث تحولت 5 تريليون دولار من مبيعات التقسيط عالميا، من التسوق المباشر إلى الشراء عبر الإنترنت. وفي أثر ذلك، طغا “الافتراضي” على كل مناحي الحياة بحيث غزت العملات الرقمية العالم، مكتسحة المجالات التقليدية للعملات الصادرة عن البنوك المركزية. بل إنها تحولت (بفضل إغراء الفوائد الكبيرة التي تمنحها للمستثمرين فيها)، إلى بدائل افتراضية “يُخزّن فيها الباحثون عن الاستثمار السريع أو تبييض الأموال المشبوهة، عن المعادن النفسية (خصوصا الذهب) والسندات وغيرها.
بل طال النجاح السريع والكبير للعملات الرقمية، أن بعض الدول شرعت التداول بها وشخصيات كبرى فضلت تقاضي أجورها بها. وبدا جليا أن فكرة كون العملة الصادرة عن البنك المركزي، ما زالت الطريقة الوحيدة لشراء الحاجات اليومية، قد تلقت ضربة موجعة.
لكن غالبية دول العالم ما تزال حذرة بشأن التداول الرقمي للقيم المالية، لأسباب تثير الجدل عالميا. وفي مقدمتها أن السلطات لن تتمكن من حماية المستهلكين من الاستغلال والنصب، إذا كانت الأموال المتداولة خاصة وتسيطر عليها التجارة الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي. وهو ما يعني باختصار، أن التعامل بالأوراق المالية دخل طور الاحتضار، في وقت ما يزال العالم غير مستعد بعد لهذا التحول التاريخي.
 
على مدار قرن مضى، كانت العملات الورقية تفقد قيمتها بشكل مطرد، بحيث نقترب الآن من أدنى مستوى لها على الإطلاق. فقد كشفت دراسة دولية أُجريت على 775 عملة ورقية حول العالم، بأنه لا توجد عملة ورقية واحدة احتفظت بقيمتها على المدى الطويل، فعادة ما يكون العمر الافتراضي لأي عملة ورقية قرنا أو أكثر بقليل.
وتبعا لذلك تستنتج الدراسة بأن نهاية النقد كما عرفناه على مدى القرن الماضي، باتت تلوح في الأفق وستكون لها آثار بعيدة المدى على الاقتصاد والتمويل والمجتمع بشكل عام. لكن المشكلة تكمن في أن العالم ليس جاهزا بعد لتبني بديل (أو بدائل) له.
 
كورونا أتى على البقية
سدد الوباء ضربة قاضية لاستخدام البشر للعملة النقدية، بحيث تقدمت التعاملات غير النقدية وستتزايد مع الوقت. فقد سرعت صدمة كورونا عملية الانتقال من الدفع بالعملة النقدية، لفائدة الدفع بالبطاقات البنكية والهواتف، في أرجاء العالم كافة وإن بوتيرة متفاوتة. ففي المملكة المتحدة، ارتفعت نسبة الشركات التي تعتمد الدفع غير النقدي، من 8 إلى 31℅ خلال فترة الإغلاق العام المتصل بـ “كورونا”. بينما في ألمانيا بقيت العملة الورقية طريقة التعامل المفضلة.
أما السويد التي أدت أحيانا كثيرة دور قائدة العالم، لأنها تعطيه لمحة عما سيكون سلوك بقية دوله بعد سنوات قليلة، فقد اختفت منها العملة الورقية تقريبا. إلى درجة أن رئيس البنك المركزي السويدي حذر من أنه “يجب أن تتوفر بين أيدينا كميات كافية من العملة النقدية المحفوظة جيدا في البلاد، لنستطيع استخدامها إذا حصلت مشكلة خطرة، من قبيل انهيار أنظمة الاتصالات”.
هكذا ظهر أن “الكاش” أو التعامل بالنقود بأنواعها الورقية والمعدنية، كان أول ضحايا الوباء الذي يتمدد في العالم منذ عامين، نظرا لكون تداول النقود يعد من مخاطر تفشي الفيروس بسبب لمسها بالأيدي. إلى درجة أن بعض المتاجر في الولايات المتحدة أصبحت تمتنع عن قبول التعامل بـ”الكاش”. وبالتالي يتزايد حاليا استخدام بطاقات الدفع الإلكتروني لتسديد الحسابات ودفع الفواتير في المتاجر. ويختفي تدريجيا بالمقابل استخدام النقد في أوروبا وأمريكا والعديد من دول آسيا.
ورغم أن العديد من البنوك المركزية تدخلت لوضع حد لرهاب الفيروس هذا، من خلال القيام بعمليات تعقيم منتظمة للأوراق النقدية التي ترد إليها، والاحتفاظ بها لمدة كافية قبل إطلاقها مرة أخرى للتداول. إلا أن هذه العملية مكلفة ماديا وتستنزف جهدا ووقتا.
لكن الابتعاد عن استخدام النقود أو التقليل منه، كشف من جانب آخر أن له ميزات كثيرة. فبعيدا عن إكراهات التدابير الصحية، فمن المكلف وغير الآمن نقل تلك الأموال من وإلى البنوك، مع ما يتطلبه ذلك من دفع تأمينات عليها وتوفير حراسات أمنية، ثم تعبئة الصرافات الآلية باستمرار. وهذه السلسلة من الإجراءات اليومية تستهلك الكثير من المصاريف والجهود، يمكن توفيرها باعتماد بديل عن النقود.
 
صعود العملات الرقمية
وُلدت العملات الرقمية (المشفرة) في خضم الانهيار المالي للعام 2009 وبسببه، من خلال عملة بتكوين، في محاولة للحد من سيطرة الحكومات على الأموال في ظل انعدام الثقة الذي ساد. وإذا كنا نجهل على وجه اليقين الهدف من إنشاء بتكوين، لأننا ببساطة لا نعرف من اخترعها، فإن الخبراء، وفي ذلك الوقت توقعوا أن العملة المشفرة -التي لا يدعمها أي شيء على الإطلاق-ستنهار. لكن من الواضح أنهم كانوا مخطئين.
عملة بتكوين (ومعها العملات الرقمية التي ظهرت بعدها) لا تعمل كسائر العملات التقليدية، وإنما يحكمها التشفير والخوارزميات. وهذا يعني أنه لا يمكن لأحد أن يقلل من قيمتها أو يزيحها أو يفرض ضرائب عليها. فهذه العملة الرقمية أنشئت بناء على سياسة تحررية وفوضوية لكن بشكل إيجابي. وهو ما يجعلها تعمل بشكل جيد رغم خطورتها على صعيد تجارة المخدرات والجريمة المنظمة.
وحتى نبقى في عملة بتكوين كمثال عن باقي نظيراتها، فإنها لم تتوقف عن تصدر عناوين الصحف خلال السنوات الأخيرة، بسبب تقلب أسعارها المستمر الذي يفسر تباين الآراء حولها. فهذه العملة الرقمية الموجودة بكميات محدودة، والتي لم تزد قيمتها عن 0,001 دولار عند إطلاقها في عام 2009، تجاوزت قيمتها قبل أيام 60 ألف دولار (أكثر من 60 مليون سنتيم)! وارتفاعها أو انخفاضها يجر معه العملات الأخرى المشفرة إلى الارتفاع أو الانخفاض. على عكس بتكوين، يُراد لعملة “Diem” التي أطلقتها شركة فيسبوك أن تكون “عملة مستقرة”. ولذلك فإنها صدرت مدعومة باحتياطي من العملات الورقية، مثل الدولار الأميركي. وهي العملة الرقمية الوحيدة التي تعمل فعليا كأموال.
إن العملات المشفرة يمكنها أن تُغيِّر عالم تحويل المال الدولي، الذي يرزح تحت ثقل الصعوبات والتكلفة المرتفعة. ففي الوقت الحالي، تنتقل الأموال القانونية عبر الحدود، من بنك إلى آخر مع إضافة رسوم في كل خطوة واعتماد إجراءات مكافحة غسيل الأموال المكلفة. وبدلا من ذلك، يمكن أن تتم جميع عمليات التحويل ببساطة عن طريق شراء عملة مشفرة (رقمية) ثم إرسالها. وهذا من شأنه أن يُنقذ المهاجرين الفقراء في كثير من الأحيان، من الاضطرار إلى تسليم جزء كبير من التحويلات إلى النظام المالي في طريقها إلى أوطانهم. ومؤخرا كانت السلفادور أول دولة في العالم تعتمد بتكوين عملةً قانونية لحل هذه المعضلة، حيث كان مهاجروها بالخارج يعانون لإرسال المال إلى بلدانهم.
لكن العبور إلى مستقبل العملات الرقمية لن يكون سهلا. فكل نظام صنع أو أوجد عملة ورقية ما سوف يستميت في الدفاع عنها.
 
نقد البنوك المركزية يحتضر
على هذا النحو، تخلص كثير من الدراسات إلى أن نقد البنوك المركزية دخل طور الاحتضار. لكن المشكل أن العالم ليس مستعدا بعد لدفنه، رغم أن إيقاع “موته” أضحى أسرع بسبب كورونا وما بعده. فقد تلقت فكرة كون العملة الصادرة عن البنك المركزي، ضرورة لا محيد عنها لشراء الحاجات اليومية ضربة موجعة، حيث أصبح ملايين المستهلكين وآلاف التجار عبر العالم، مستخدمين جددا لأنظمة الدفع عبر الأنترنت. ويُرجح أن يستمر الكثيرون في استخدام هذه الطرق الجديدة لاقتناء الأغراض والخدمات وتسديد الفواتير.
في غضون ذلك، يرى خبراء دوليون أن البشرية توجد منذ أكثر من عقد في خضم ثورة مالية جديدة، أطلقها هذه المرة الابتكار الخاص لأفراد لا نعرف حتى من يكونون. حيث جاءت الشرارة من عملة “بيتكوين” في فبراير 2009، وهي أول عملة رقمية لا تحتاج إلى طرف ثالث موثوق به، سواء كانت حكومة أو بنكا تجاريا أو معالج مدفوعات ليضمنها.
إن من أهم فوائد العملة الرقمية الأمن، ذلك أن الأوراق النقدية تكون عادة عرضة للخسارة أو السرقة، وهي مشكلة يعاني منها كل من الأفراد والمؤسسات على حد سواء. في حين أن العملات الرقمية تُعتبر آمنة نسبيا من هذا الجانب، علما أن العملات الرقمية يمكن أن تتعرض بدورها للقرصنة الإلكترونية. لكن يمكن في الوقت الراهن، حمايتها باستخدام تقنيات جديدة.
علاوة على ذلك، يمكن للعملات الرقمية أن تخدم مصالح الفقراء والذين لا يتعاملون مع البنوك. إذ يُعتبر بحسب القوانين المصرفية، من الصعب الحصول على بطاقة ائتمان، إذا لم يكن لديك الكثير من المال. فضلا عن أن البنوك تفرض رسوما على الحسابات منخفضة الرصيد. في المقابل، ستمنح العملات الرقمي الجميع، بمن فيهم الفقراء، إمكانية الوصول إلى نظام دفع رقمي وبوابة للخدمات المصرفية الأساسية منخفضة التكاليف للغاية.
وعلى العكس من ذلك، توفر مرونة العملة الورقية استقرارا أكثر، من الندرة المصطنعة للعملات الرقمية المشفرة. وهو ما يجعلها أكثر جاذبية للأفراد والشركات في الأوقات السيئة. في النهاية، يمكن للبنك المركزي التدخل وطباعة المزيد. وهذا يعني أن البنوك المركزية ستظل مركزية، لكن دورها سيقتصر على إدارة الاقتصاد الكلي وجلب الاستقرار للعملات الرقمية الجديدة، بدلا من الإشراف على نظام معقد من المؤسسات الوسيطة كما هو الحال اليوم. والأمر لا يعدو أن يكون مسألة وقت قبل أن تقرر البنوك المركزية إطلاق العملة الرقمية الخاصة بها. فقد أطلقت جزر البهاماس مثلا عملة رقمية، بينما لا تزال البنوك المركزية الكبرى الأخرى ‒مثل البنك المركزي الأوروبي والأمريكي‒ تستكشف خياراتها.
 
البنوك تنفتح بحذر على النقود المُشَفّرة
 
ظلت البنوك عبر العالم تعتبر العملات الرقمية بشكل عام، عملة كل من لديه أنشطة مشبوهة من تجار المخدرات، والدعارة، والإرهابيين، والأثرياء الذين لا يريدون الكشف عن مصادر ثرواتهم. كما أنه لا توجد سلطات تدافع عن هذه العملات، مثلما ما هو معمول مع بقية العملات، كاليورو الذي يدافع عنه البنك المركزي الأوروبي، والدولار الذي يدافع عنه البنك المركزي الأميركي. بينما ليس هناك بنك مركزي يدافع عن البتكوين في حال انهيارها. وهنا يكمن ضعف وخطر هذه العملة على أي مستثمر.
لكن في المحصلة، يكشف الهوس العالمي بالعملات المشفرة، بأن إقبال الدول التي باتت سيادتها النقدية تحت التهديد، على العملة الرقمية أمر لا مفر منه. كما أن عددا أكبر فأكبر من الخبراء الاقتصاديين، يرون بأن العملات الرقمية المشفرة هي مستقبل العلاقات الاقتصادية الدولية.
في ظل هذا المناخ العالمي الذي بات منشغلا حد الهوس بالعملات الرقمية، يخطط عدد كبير من البنوك المركزية لإدخال هذه العملات الرقمية ضمن نظام مبادلات محدود، حتى تكون موجودة جنبا إلى جنب مع النقود الورقية كخيار نقدي آخر. ثم يتم توسيع مجال تداولها مع مرور الوقت، إلى أن تكتسب شعبية ويصبح عصر النقود الصادرة عن البنوك المركزية جزءا من الماضي.
وقد غامر بالفعل عدد من البنوك الأميركية الكبرى، خلال الشهور الماضية، بدخول عالم العملات المشفرة وإن بشكل حذر. فمنذ مارس الماضي، أصبح بنك “مورغان ستانلي” الشهير، مثلا، أول مؤسسة مصرفية تقدم لعملائها الأثرياء إمكانية الوصول إلى البتكوين في أمريكا.
وهنا يُطرح السؤال: كيف تجرأت البنوك الأميركية الكبرى على دخول عالم العملات المشفرة، رغم علمها أنه ما يزال يفتقر إلى أُطر قانونية تحدد معالمه؟ والسبب الرئيس لاندفاعها نحو هذا القطاع الغامض، إنما يكمن في تزايد اهتمام عملائها بهذه العملات في الآونة الأخيرة. فإذا كان نادرا قبل عام، أن تتلقى البنوك طلبات من شركات ترغب في التعامل بالعملات المشفرة، فإنها باتت تتلقى حاليا طلبات كثيرة أسبوعيا.
ومن جانبها، شرعت الصين واليابان والسويد تجربة العملة الرقمية للبنك المركزي، في حين يستعد بنك إنجلترا والمركزي الأوروبي لخوض تجربتهما الخاصة. وبالفعل، طرحت جزر الباهاما أول عملة رقمية رسمية في العالم. وبذلك يمكن للبتكوين والعملات الافتراضية بشكل عام، أن تصبح قريبا وسيلة حقيقية للدفع يوميا. فهي لم تعد مجرد استثمار مضارب، بل يُرتقب أن تأخذ قريبا جدا مكان الأوراق المالية، في جزء كبير من العالم على الأقل.
 
 

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي