جميع المغاربة ينعتون الجاهل بـ”الأزرق” الذي لا يتناطح كبشان عن بعده عن فك الخط وفهم المعاني وتركيب جمل مفيدة. اللون الأزرق بريء من الجهل فهو لون السماء والمحيطات وأجمل الورود. وهو لون البراءة والصدق حيث قيل عن إنسان بريء أنه ” أزرق من سماء إيطاليا وأفرغ من فؤاد أم موسى” . لكن العالم الافتراضي تحول بكل قسوة لتدمير كل شيء جميل. أصبحت عورات عباد ألله مستباحة وتحولت النميمة والكذب والفاحش من القول تجارة مربحة لأشباه بعض البشر. بدل الافتخار بالعالم والشاعر والمبدع، تحول النظر والعقل المغيب إلى ” روتيني اليومي” وحكاية أسرة باطما التي تحولت إلى مسلسل غطى على “ليالي الحلمية” وقد يغطي على الإبداع السينمائي وحتى على الطرب الجميل والعلاقات الزوجية. هكذا طوطو، باطما، ميلودي، مومو، فوفو، سوسو… هكذا سيطرت كائنات على هواتفنا بدون رخصة. كلما حاولت البحث عن كتاب أو مسرحية أو حدث علمي، تجتاح شاشة هاتفي هجومات تفرض علي صور عن “فاتنة عصرها” التي كانت مطربة وأصبحت مطلوبة في الحفلات ومكتسحة سوق القفطان المغربي. تريد البحث عن آخر الأخبار عن الحرب في أوكرانيا، فتجد أمامك أخبارا عن باطما وزوجها. تحاول الهرب، فتلحق بك صورة أختها وبعلها. قد تكون باطما الفتاة ” ورحمة الله على العربي الأصيل ” بريئة من زخم الفضاء الأزرق، لكن الواقع أصبح يبعث على اليأس.
زاد سوق التفاهة استيلاء على العقول وزادت معه مداخيل بالدولار المحول إلى الدرهم والمحول إلى حسابات مسوقي الدعارة الفكرية والبأس المجتمعي. طوطو يسب قيم المواطنين ويتباهى بذلك. ويأتي وزير العدل لكي ينهرنا جميعا ويرجع الخطأ إلى عدم فهمنا لتحولات المجتمع ولأهمية طوطو. طوطو ذو الأربعين مليون مشاهد حسب السيد الوزير، يفرض علينا مراجعة أنفسنا والتمكن من مفاتيح قراءة الواقع بدون تموقع بعيدا عن الجمود الفكري. جازاك ألله بما تحمله مقولاتك وفلسفتك العصرية والأصيلة في ظل واقع يتطلب الحزم والتوجه للبناء السياسي والثقافي والإقتصادي والأخلاقي في شموليته الحضارية. والخطير في الأمر ذلك الصمت الصاخب الذي تكلمت من خلاله أحزاب الأغلبية في زمن سيطرة التفاهة وتراجع العقل والتأثير السلبي على التشبت بالقيم. التضامن الحكومي يكاد يسمح بكل المتناقضات. رحم الله علال الفاسي زعيم حزب الاستقلال وزاد في عمر أحمد عصمان مؤسس التجمع الوطني للأحرار وغيره ممن لا زال بيننا يشكو بصوت خافت تحول الزمن السياسي وما اوقعته فيه الدهماء. التضامن الحكومي يفرض الصمت على العقلاء في زمن سيطرة الجهلاء.
أين حدود مجتمع وقانون ومبادئ سياسية تحفظ للحاضر بعض سلطانه. حتى في غابر الأيام كانت ” الاف ليلة ” تقف عند..” وإدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح”. وبالطبع كنا في زمن الخيال والاسطورة فتدحرجنا إلى زمن داهمته أكبر درجات الخطورة. روتيني اليومي أصبح مجالا للمزايدات حول الحق في الحرية. سمعت محاميا يحاول أن يخترع الاجتهاد لصد محاولة تكييف فعل مشين لسيدة تبيع تصرفا طائشا من أجل مبالغ مالية آتية من شركات عالمية تدمر كل شيء جميل.
الحرية والجمال والإبداع واعمال العقل واحترام المعتقد في كلياته وتنوعه يفرض الاحترام وكثير من الوعي بأهمية الإختلاف. لكن القبح والتردي والهدم لا يستحقون الانزواء والاستسلام والقبول بأمر قبيح واقع. بالطبع هناك متطوعون للدفاع عن الفقر الفكري والقيمي باسم الحرية وانتهازية “الجمهور عايز كده” . ولكن المسؤولية السياسية تقتضي مواجهة التفاهة ولو على حساب مراكمة أصوات المناصرين.
ولكل ما سبق، أؤكد بكل صدق وإصرار على قول كلمة في حق من يحملون راية الدفاع زورا على حرية الإبداع. انهم لا يعرفون علاقة الثقافة بالتنمية وبالتاريخ والجغرافيا. لم يسبق لهم أن عرفوا تاريخ المسرح المغربي ولا قرؤوا كتابا عن الفن في كافة مجالات إبداعاته. اليوم وجب تقديم واجب العزاء في وزراء الثقافة الذين غادروا هذه الدنيا، وطوبى لهم. ووجب تقديم العزاء لمن لا زالوا على مسرح الحياة الذي يشهد تدمير ما تم بناؤه من طرف أجيال من المبدعين. اللهم أبعد عن ثقافتنا التافهين والشعبويين والفاشلين والجاهلين والغشاشين وغير المهتمين بنهضة الفكر ومن الشامتين ومن يحتلون برامج التلفزيون لكي يستشري العهر الثقافي في وجدان البلاد. لك الله أيها الفنان الذي كان يرسم الجمال. وحماك الله بلادي من التفاهة وعبدة الايقاعات والكلمات الفارغة من المعاني ومن دكاترة التسول باسم أصالة فنية تدحرجت بفعل فاعل لتصبح سلعة رخيصة.
تعليقات ( 0 )