رؤوس أموال الجالية.. عندما دعا بوصوف إلى مركز استثمار لمغاربة العالم

 

في ظرف أقل من ثلاثة أشهر، وبعد الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 69 لثورة الملك والشعب، الذي وقف بعمق عند قضايا مغاربة العالم وحمل توجيهات واضحة للحكومة من أجل الانكباب على معالجتها، يعود الملك محمد السادس، بمناسبة افتتاح السنة التشريعية، ليجدد الدعوة لإعطاء عناية خاصة لاستثمارات ومبادرات أبناء الجالية المغربية بالخارج.

هذه الدعوة الملكية، التي تحمل رؤية استراتيجية ووعيا عميقا لدى أعلى سلطة في البلاد بوزن الجالية المغربية المقيمة بالخارج، إن على مستوى مساهمتها المادية أو غير المادية المرتبطة بالعنصر البشري واقتصاد المعرفة الذي تمتلكه، تجعلنا نلمس حرصا ملكيا خاصا، منذ أول خطاب للعرش، على إشراك مغاربة العالم في تنمية بلادهم.

بيد أن هذا الاهتمام الملكي والحرص على تذليل الصعاب أمام مغاربة العالم، لم ينعكس طيلة السنوات الماضية على البرامج والسياسات التي حاولت الحكومة المتعاقبة تنزيلها في عدد من المجالات، وعلى رأسها استقطاب استثمارات هذه الفئة، ما أدى في واقع الأمر إلى شبه نفور لرؤوس أموال مهمة كان يفترض أن تكون أحد أهم محركات الاقتصاد الوطني.

ثروة بدون بوصلة

رسالة الشكر التي وجهها الملك محمد السادس للجالية المغربية بالخارج، في خطاب ذكرى ثورة الملك والشعب، شكلت حافزا قويا لهذه الفئة من أجل تعزيز مساهمتها في تنمية البلاد. فبنك المغرب يتوقع أن تتجاوز قيمة التحويلات 100 مليار درهم هذه السنة، وهو رقم ضخم من العملات الأجنبية التي لولاها لكانت المالية العمومية في ورطة حقيقية أمام سياق دولي صعب يتميز بارتفاع كبير في الأسعار.

لكن الذي يستحق الوقوف عنده، وبعمق، هو مصير هذه التحويلات.. ومصير رؤوس الأموال التي تستثمر في بلدان إقامة الجالية المغربية أو في بلدان أخرى توفر فرص استثمار وتسهيلات واسعة من أجل تعزيز اقتصاداتها، في وقت كان يفترض أن تكون بلادنا هي الوجهة الأولى لأي مستثمر مغربي عبر العالم، لاسيما وأن الاقتصاد الوطني يوفر امتيازات كبيرة للمقاولات الأجنبية، فكيف يقصي أبناء الوطن الأم؟

بالعودة إلى بحث أنجزته المندوبية السامية للتخطيط، حول الهجرة الدولية، نشر سنة 2020، يتضح أن 2.9 بالمئة فقط من المغاربة الذين هاجروا، صرحوا بأنهم أنجزوا مشاريع استثمارية بالمغرب. كما كشف التقرير نفسه عن تركيز عال لهذه الاستثمارات في قطاعات العقار (40.7 بالمئة)، والفلاحة (19 بالمئة)، والبناء (16.6 بالمئة).

ولدى سؤالهم عن أسباب عدم رغبتهم بالاستثمار في المغرب، أكد العديد من أفراد الجالية، وفقا لتحقيق مندوبية التخطيط، أن هذا الأمر يعود، بشكل أساسي إلى نقص رأس المال (38.9 بالمئة)، والمساطر الإدارية المعقدة (14.0 بالمئة)، أو ضعف التخفيزات الضريبية (8.6 بالمئة).

من هنا جاءت دعوة الملك محمد السادس، بمناسبة خطاب ذكرى ثورة الملك والشعب، إلى وضع آليات فعالة للرعاية والدعم والشراكة”، وذلك بهدف جذب أكثر المواطنين ترددا من بين المغاربة المقيمين بالخارج. وقد ربط الملك محمد السادس هذه الدعوة بمسألة أخرى غاية في الأهمية، تتعلق بتعبئة الكفاءات المغربية بالخارج. هذه الدعوة تمثل فهما عميق لدى العاهل المغربي لالتقائية رأس مال مغاربة العالم باقتصاد المعرفة والخبرة الذي يحمله أبناء هذه الجالية، ما سيشكل في واقع الأمر ثروة حقيقية للبلاد.

أين الخلل؟

عندما يقول الملك في خطاب ثورة الملك والشعب إن العديد من أفراد الجالية “مازالوا يواجهون العديد من العراقيل والصعوبات، لقضاء أغراضهم الإدارية، أو إطلاق مشاريعهم. وهو ما يتعين معالجته”، فهذه دعوة صريحة للحكومة من أجل اتخاذ كافة التدبير الضرورية وإطلاق سياسات عمومية من شأنها أن تتجاوز الاختلالات المرصودة، وتمكن بلادنا من استغلال والاستفادة من الثروة المادية واللامادية التي يوفرها أبناؤنا بالخارج.

في هذا الإطار، وما دمنا نتحدث عن موضوع الاستثمار، يحق لنا أن نتساءل عن مصير عدد من المشاريع والتزامات بعض الوزراء التي تبخرت كما تتبخر كافة الوعود الانتخابية.. لكنها مع الأسف تؤدي إلى تفويت فرص بلادنا في أمس الحاجة إلى استغلالها في هذه الظروف الصعبة التي يجتازها العالم. ألا يحق لنا اليوم أن نتساءل عن التزام الوزيرة السابق عن قطاع المغاربة المقيمين بالخارج، بتعبئة 500 ألف مستثمر و10 آلاف كفاءة؟ ألا يحق لنا أن نتساءل عن دور “الجهة 13” التي تم خلقها داخل اتحاد مقاولات المغرب، ونالت من الدعم الحكومي الشيء الكثير، بوصفها آلية لاستقطاب المستثمرين المغاربة بالخارج؟ ألا يحق لنا اليوم أن نتساءل، وبكل وضوح، عن موقع مغاربة العالم في البرنامج الحكومي؟

إن المعضلة الحقيقية التي يعرفها تدبير ملف الجالية هو غياب سياسات عمومية مخصصة لهذه الفئة من المواطنين، وليس إجراءات أو تدابير بدون أفق استراتيجي ورؤية واضحة. ففي سنة 2000، تم إطلاق صندوق للاستثمار موجه لمغاربة العالم، لكن الذي وقع هو أن حصيلة هذا الصندوق تبقى ضعيفة، وهو ما جعل محمد بنشعبون عندما كان وزيرا للاقتصاد والمالية، يحاول فتح وىش إصلاح هذه الصندوق.

ذلك أن هذه الآلية توفر 10 بالمائة كدعم من قيمة المشروع في حدود 5 مليون درهم، بالإضافة إلى إمكانية الحصول على قرض في حدود 65 بالمائة كحد أقصى من كلفة المشروع.. لكن المثير هو أن يتم توفير حد أدنى للتمويل الذاتي، 25 بالمائة بالعملة الأجنبية، وكأن رجال الأعمال والأثرياء الذين يستثمرون في قطاعات جد مربحة، ويستفيدون من امتيازات واسعة، يوفرون للدولة هذا الحجم من العملة الصعبة.

أيضا، لابد من إعادة النظر في الخدمات والمنتجات التي توفرها المؤسسات البنكية في المغرب لأبناء جاليتنا.. فالمطلوب اليوم هو قطاع بنكي قوي قادر على استقطاب الكفاءات المقيمة بالخارج، ومدها بالتمويلات الضرورية لإقامة المشاريع، بدل أن يظل مقتصرا على خدمات لتحويلات البنكية، والتي يتم تقديمها بأسعار غير تنافسية قد تجعل عددا من أثرياء المملكة بالخارج لا يفكرون في تحويل أموالهم خشية أن تلتهم الأبناك جزء يسيرا منها كرسوم عن خدمة بات ضروريا أن تتحملها الدولة والأبناك حتى نتمكن من استقطاب مزيد من العملة الصعبة، ونساهم في تغطية عجز الميزان التجاري.

رؤية بوصوف المبتكرة

في خضم كل نقاش حول قضايا مغاربة العالم، يبرز الأمين العام لمجلس الجالية، ليس بصفته مسؤولا عموما، لكن كخبير كبير في ملف الهجرة، يفهم بعمق قضايا الجالية بمختلف تحدياتها وأبعادها ورهاناتها. فقضية الاستثمارات مثلا ظلت دائما حاضرة في عدد من تصريحات الرجل وكتاباته العلمية التي يسعى فيها إلى التنبيه ورصد الظواهر وطرح عدد من الحلول بشكل استباقي.

في هذا السياق، لابد أن نقف عند فكرة رائدة طرحها عبد الله بوصوف قبل سنوات، والمتمثلة في إحداث مركز استثمار خاص بمغاربة العالم. بالنسبة للرجل، فانتماء مغاربة العالم إلى أكثر من جهة يجعل من خلق “المركز الجهوي للاستثمار رقم 13” بوابة حقيقية وواقعية وليست افتراضية، تحمل مضامين إجابات واضحة للمقاولين وللكفاءات وللمستثمرين المحتملين لمغاربة العالم. فالمركز الجهوي للاستثمار الخاص بمغاربة العالم عليه أن يجعل من القرب من المهاجر والانفتاح عليه هدفه المحوري، يمكنه من لعب دور آلية التحفيز والتشجيع على الاستثمار، سواء من حيث توضيح وتبسيط سياسة الدولة في مجال الاستثمار إلى المهاجرين المستثمرين، وكذا إيصال فرص “العرض الاستثماري” حسب المجالات والقطاعات والأولويات الجهوية واحتياجات كل جهة.

وقبل التفكير في تفعيل هذا المركز المخصص لمغاربة العالم على صعيد الجهات، يرى بوصوف أنه من الضروري إعداد الترسانة القانونية اللازمة لتسهيل مساطر التقاضي، بداية بتبني مساطر قانونية استثنائية تتماشى مع خصوصيات هذه الفئة من المواطنين المغاربة، وصولا إلى بنية مؤسساتية قضائية قوية، لتسوية الخلافات بين المستثمرين الإدارات العمومية؛ لأن العدد الحالي من المحاكم التجارية على سبيل المثال لا يتماشى مع التقسيم الترابي الجهوي.

ويذهب الرجل  إلى أن استقطاب الاستثمارات الأجنبية لمغاربة العالم يقتضي تبسيط الوعاء الضريبي، ونشر خرائط مناطق الامتياز الضريبي، وتخصيص فضاءات في المناطق الصناعية والتجارية لمغاربة العالم، وتنظيم حملات تواصلية داخل بلدان الإقامة بوسائل توجيه ووساطة عصرية مع ضرورة احترام العائق اللغوي للشباب المقاول من مغاربة العالم، فهم يتكلمون لغات مختلفة ليس فقط العربية أو الفرنسية، بل أيضا الألمانية والهولندية والإيطالية والإسبانية واليابانية والإنجليزية؛ وهو ما يعني ضرورة توفر خدمة الترجمة أو الاستعانة بكراسات متعددة اللغات بالمركز الاستثمار الجهوي رقم 13.

إن هذه الفكرة التي جاء بها الأمين العام لمجلس الجالية، والتي تم تفكيكها لتصبح بمثابة سياسة عمومية قدمت للحكومة السابقة بشكل مجاني، دون أن تتم الاستعانة لا بمكاتب دراسات أو خبراء مقابل صفقات سمينة، تعود اليوم لتطرح نفسها بقوة، في سياق توجه ملكي صارم بضرورة تذليل مختلف الصعاب أمام هذه الفئة لتساهم، بشكل فعال، في مختلف الأوراش التي فتحتها بلادنا.

شارك المقال
  • تم النسخ

تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

المقال التالي