عندما اندلع النزاع المسلح حول الصحراء المغربية سنة 1976، سارعت تونس، التي كان يرأسها آنذاك الحبيب بورقيبة، إلى إعلان حيادها الإيجابي، وأطلقت إثر ذلك محاولات وساطة لنزع فتيل التوتر تحت رعاية الأمم المتحدة.. ورغم أن كل تلك المساعي فشلت، إلا أن هذه الدولة حافظت دائما على هذا الموقف الحيادي التاريخي، حتى وإن كان بورقيبة يعتبر ان القضية مصطنعة كما صرح بذلك وزير الداخلية التونسي الأسبق الطاهر بلخوجة في شهادات نشرتها الصحافة التونسية سنة 2008.
طيلة عقود من الزمن، ظلت الرئاسة التونسية، باعتبارها المتحكم الأول في السياسة الخارجية للبلاد، واقفة بثبات في وجه المساعي الجزائرية الرامية إلى إخضاعها لضغوط “البترودولار”، حتى إن هواري بومدين لم يغفر لبورقيبة عدم تأييده لجبهة البوليساريو، واختياره الحياد الإيجابي الذي سيظل نهجا تاريخيا لموقف هذه الدولة تجاه قضية الصحراء.
أكثر من ذلك، تفيد عدد من الأوراق الدبلوماسية بأن الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي ظل يتحفظ بل ويرفض الموقف الجزائري من قضية الصحراء. ووفق تسريبات موقف “ويكيليكس” سنة 2010، فقد أبلغ ديفيد ويلش، مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى وشمال أفريقيا في الفترة بين 2005 و2008، الإدارة الأمريكية إثر لقاء مع بن علي بأن الأخير يحمل السلطة الجزائرية مسؤولية عدم قيام اتحاد المغرب العربي بسبب موقفها من قضية الصحراء، حتى إنها رفضت محاولة تونسية لعقد قمة إقليمية حول القضية.
وعلى نفس الخط، ظل توجه الطبقة السياسية التونسية، بما في ذلك تلك التي قد تكون لها اتصالات مع البوليساريو على مستوى اليسار التونسي، (ظل) دائما يدعو السلطة إلى الحياد الصارم، وهو الأمر الذي بدا واضحا في ردود فعل عدد من السياسيين بعد خطوة سعيد.
رئيس حزب المجد، عبد الوهاب الهاني، اعتبر على صفحته في “فسيبوك”، أن “استقبال رئيس الجمهورية لزعيم جبهة بوليساريو انحراف خطير وحياد غير مسبوق عن ثوابت الديبلوماسية التونسية وغباء دبلوماسي لوزير التدابير الاستثنائية للشؤون الخارجية (عثمان الجرندي) وانتحار سياسي للرئيس قيس سعيد سيعرض المصالح العليا لتونس ومصداقيتها بين الدول لصعوبات كبيرة”.
من جهته علق جوهر بن مبارك، أستاذ القانون الدستوري ومنسق حركة مواطنون ضد الانقلاب، على خطوة سعيد بالقول “وصلنا مرحلة التلاعب الغشيم بالتوازنات الإقليمية والزج بتونس في لهيب الصراعات وتهديد ما تبقى من استقرار البلاد”.
واضح أن الرئيس التونسي قد ارتكب أكبر خطيئة في تاريخ دبلوماسية بلاده على مستوى المنطقة المغاربية، كيف لا وهو يضع نقطة نهاية لموقف محايد كان على الأقل يجنب البلد منطق الاصطفاف والمحاور التي جعلت اليوم من هذا البلد نقطة تشابك عدد من الأيادي الخارجية.
لكن بدل الاعتذار والمسارعة إلى تصحيح الخطأ، فضل قيس الصعود إلى الجبل في قضية لا يمكن للمغرب فيها أن يهادن مع أي كان. هكذا قررت تونس استدعاء سفيرها في الرباط ردا على خطوة المغرب باستدعاء سفير المملكة في تونس، من أجل التشاور.
وقد حاول بلاغ الخارجية التونسية أن يلصق مشاركة وفد الانفصاليين بالاتحاد الإفريقي، لكن الواضح أن هذا الحضور والاستقبال رفيع المستوى الذي حظي به زعيم الميليشيات المسلحة من طرف الرئيس التونسي شخصيا، يؤكد بأن العملية قد دبرت منذ مدة بين قيس والأطراف التي سارت اليوم تنهش في الجسد التونسي المنهك.
تعليقات ( 0 )